الثورة المصرية في موجتها الثانية

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم أفاجأ بسقوط "الإخوان المسلمين" في مصر، فهذا هو مآل مشروعهم السياسي، كما أتناوله في كتاباتي النقدية.

ولهذا قلت بعد وصول "حزب الحرية والعدالة" إلى سدة الرئاسة في مصر: إذا شاء الإسلاميون أن يحكموا بالاستناد إلى الشريعة، فإنهم سيفشلون ويشهدون على عجزهم وادعائهم، إذ من المستحيل في هذا العصر بناء دولة أو تنمية مجتمع، بأفكار الماضين ونماذجهم وأدواتهم.

ولكني لم أكن أحسب أن يسقط "الإخوان" بهذه السرعة، بعد كل هذا التهويل برفع شعار الإسلام والتهديد بسيفه، ومن حسن الحظ أن يفتضح أمرهم وتطوى صفحتهم بأقل التكاليف على البلاد والعباد.

وهذا من مفاعيل الثورة المصرية التي لم تخمد جذوتها، بل بقيت مشتعلة، بموجاتها وارتداداتها ومفاعيلها الهائلة، وهي عادت في الأيام الأخيرة بأقوى مما بدأت به في موجتها الأولى، من حيث حجم الحشود التي فاضت بها الساحات والميادين في القاهرة وبقية المدن، وفي كل الساحات والميادين.. هذا الطوفان البشري، الذي شهدته مصر على مرأى ومسمع من العالم، والذي لم نشهد له مثيلاً من قبل، يكشف من جهة أولى المبالغة في ما يخص تقدير حجم "الإخوان" الاجتماعي ووزنهم السياسي.

فهم لا يشكلون أغلبية في المجتمع المصري، بل مكونا من مكوناته لا أكثر. ويُسقط، من جهة ثانية، الشعارات الفارغة والخادعة حول شرعية الرئيس المنتخب بالأكثرية عبر الوسيلة الديمقراطية.

فديمقراطية البرلمان، التي يحتج بها "الإخوان"، هي أساساً ثمرة لديمقراطية الميدان، أي ثمرة للحشود الهائلة التي تحركت في 25 يناير 2011، لتسقط نظام مبارك وتفتح الإمكان أمام الإخوان للوصول إلى سدة الرئاسة عبر صندوق الاقتراع.

والآن، وبعد أن أخفق الإسلاميون في حمل الأمانة وإدارة الدفة، خرج الشعب من جديد ليطيح بنظام مرسي، الذي كان مجرد واجهة لسلطة المرشد الذي لا يظهر في الصورة، ولا يتمتع بأي منصب رسمي.

وإذا كانت الموجة الجديدة فاقت الأولى بحشودها، فإنها تميزت عنها بولادة هيئة تنطق باسم الجموع الثائرة والمتمردة.

طبعاً لا عودة عما أنجزته الموجة الأولى، حيث الثورة جرت من غير قائد تاريخي أو بطل ملهم أو زعيم أوحد، يمارس الوصاية على الثورة ويحتكر السلطة.

ولكن كانت هناك حاجة إلى من يتحدث باسم الجموع، فكانت هذه الهيئة التي تضم شخصيات سياسية ودينية، ورموزا من المعارضة السياسية بمختلف أطيافها.

ومما يعزز مصداقية هذه الهيئة ويجرد جماعة "الإخوان" من النطق باسم الإسلام واحتكار تمثيله، مشاركة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب في صياغة "خريطة المستقبل" التي خرجت بها الهيئة على الملأ.

والملاحظ هنا أن السلفيين الذين أتوا من رحم "الإخوان المسلمين" لم يخرجوا على إجماع الشعب المصري، بل أيدوا الخطوة التي اتخذها الجيش بعزل الرئيس محمد مرسي، للشروع في مرحلة جديدة يتسلم فيها إدارة الدولة رئيس المحكمة الدستورية، وكان للجيش دوره الحاسم في هذا الخصوص باستجابته للمطالب الشعبية.

ولا شك أن سقوط "الإخوان" في مصر، ستكون له آثاره وتداعياته على الأحزاب الإسلامية في البلدان الأخرى، سيما تلك التي اتخذت من تجربة "الإخوان" مرجعاً ومثالاً.

صحيح أن فكرة الحاكمية الإلهية أو الخلافة الإسلامية، قد أتت من باكستان إلى مصر، ولكن مصر صدرتها إلى البلدان العربية والإسلامية الأخرى، بما فيها إيران نفسها التي تأثرت بمشروع "الإخوان المسلمين"، ولكن بعد إخراجه إخراجاً شيعياً، تحت اسم ولاية الفقيه.

وإذا كان المرشد الأعلى في إيران قد عبر عن ابتهاجه بعد وصول الإخوان إلى السلطة، واعتبر ذلك بمثابة نجاح للصحوة الإسلامية، فإن هذا السقوط المدوي للإخوان في مصر لن يمر دون أن يترك أثره في إيران. لا يمكن أن يسقط المرشد في القاهرة، دون أن يهتز عرش المرشد القابض على الأمر في طهران.

نحن إزاء نفس الفكرة الأصولية التي ولدت منذ قرن في نفوس موتورة وعقول هدامة، لتفشل في امتحانات المعرفة والديمقراطية والتنمية.

كذلك لن يمر سقوط الإخوان دون أن يترك أثره على تونس، التي كانت السباقة في الانقلاب على النظام الديكتاتوري.

أما كلام المرشد التونسي راشد الغنوشي عن أن ما جرى في مصر لن يؤثر في تونس، فإنه لن يخدع سوى صاحبه، لأن ما يجري في مصر هو إسقاط المشروع الأصولي بعد إسقاط النظام الديكتاتوري، ولذا فهو يطال مشروع الغنوشي في الصميم، رغم التنازلات الشكلية التي يتحدث عنها.

أنتقل من كلام المرشد التونسي إلى كلام الرئيس السوري الذي فسر الحدث المصري لمصلحة نظامه، بشن هجوم على "الإخوان" واتهامهم بإحداث "فتنة عربية"، متناسياً أن الثورة المصرية أسقطت الأصولية بعد أن أسقطت الديكتاتورية.

ولذا فإن كلامه يعيدنا إلى ما قبل الثورة، أي إلى نظام الاستبداد الذي طوت صفحته ثورة يناير، على عكس ما يجري في سوريا، حيث النظام الاستبدادي القائم الذي يشن الهجوم على شعبه، يتلقى الدعم الكامل من النظام الأصولي الإيراني الذي هو الوجه الآخر للنظام الأصولي الإخواني.

هل انتهى مشروع الإسلام السياسي؟ ليس بالضرورة، شرط أن تستخلص الأحزاب الإسلامية الدرس، فتتحول إلى أحزاب سياسية تستلهم القيم الدينية لا أكثر.

أما مشروع إقامة الدولة الدينية، فإنه يحمل الإسلام ما لا طاقة له على حمله، ويسيء إليه بقدر ما يؤدي إلى انتهاك القيم الدينية على يد حراسه وحماته.

خلاصة القول؛ إن ما جرى على أرض الكنانة، مما فاجأ العرب والعالم، فتح أبواباً جديدة لكي تتحرر مصر وتنهض وتنخرط في صناعة تقدمها ومستقبلها، عبر أعمال الخلق والاختراع والإنماء والبناء.

وحسناً أن سمي البيان الذي صدر باسم المتمردين باسم "خريطة المستقبل"، فما حدث لا يضع الشعب المصري على منصة التاريخ كما يفكر المثقف الجالس على المنصة، بل يحررنا من أوهام فلاسفة التاريخ وتلامذتهم، لكي يفتح الآفاق نحو المستقبل، ويشق الدروب لولادة مصر جديدة.

Email