البحر المتوسط في مواجهة الركود

ت + ت - الحجم الطبيعي

يمكنك من قمة جبل طارق أن ترى إفريقيا وهي تمتد على بعد 9 أميال إلى الجنوب، وأن تحدق شرقا إلى البحر المتوسط، الذي يبدو ممتدا بلا حدود، وتفصله عن آسيا وما وراءها 1500 ميل. وكان الرومان يطلقون على هذه المياه العميقة، التي سمحت لروما بتوحيد آسيا وإفريقيا وأوروبا لمدة 500 عام، في ظل حضارتهم المعولمة المزدهرة، اسم «مير نستروم»، أي «بحرنا».

غير أن البحر المتوسط لم يبرهن على الدوام على أنه حاضنة التاريخ للحضارات العظيمة، أي الحضارات اليونانية، الرومانية، البيزنطية، العثمانية والفلورنسية. وفي بعض الأحيان كانت «أعمدة هرقل» عند مضيق جبل طارق، لا تشكل بوابة إلى التقدم والازدهار، وإنما نفقا مسدودا في وجه الثقافة والتجارة.

ومع نهوض الإمبراطورية العثمانية وقبل شق قناة السويس، فإن دور الطاقة المتمثلة في المدن ـ الدول الكلاسيكية القديمة في إيطاليا واليونان، قد شجبت منسحبة من التاريخ بعد أن أصبح البحر المتوسط أقرب إلى المتحف منه إلى عنصر المساهمة في التغير العالمي. وفي المقابل فإن حركتي الإصلاح والتنوير قد دفعتا بالثقافة الأوروبية الشمالية قدما، بعيدا عن خط جبهة حروب المتوسط مع المسلمين.

في أوائل القرن السابع عشر وصل الأوروبيون الشماليون بمزيد من اليسر والأمان إلى الأسواق الشرقية في الصين والهند، من خلال الطرق البحرية التي تدور حول إفريقيا. ونقل اكتشاف العالم الجديد الثروة والنزعة الديناميكية الثقافية، بعيدا عن البحر المتوسط بشكل أكبر.

بدا لبعض الوقت أن البحر المتوسط يزأر مجددا عقب الحرب العالمية الثانية، حيث تم العثور على مخزونات هائلة من النفط والغاز الطبيعي في شمال إفريقيا، وكانت قناة السويس طريقا مختصرا إلى منطقة الخليج لأهميتها الاستراتيجية البالغة. ومع توحيد أوروبا وانحسار الاستعمار عن إفريقيا والشرق الأوسط، كان هناك وعد ببحر متوسط جديد غني بالموارد وديمقراطي ومترابط تجاريا.

ليس الآن، فقد جلب الربيع العربي الفوضى إلى شمال إفريقيا كله تقريبا، ويهدد حمام الدم في سوريا بالتصاعد إلى ما يشبه الحرب الأهلية الإسبانية، حيث اجتذب الميلشيات اللبنانية وتركيا وإسرائيل والفلسطينيين وعناصر أخرى من المنطقة، جنبا إلى جنب مع موردي الأسلحة مثل الصين، وأوروبا، روسيا، والولايات المتحدة.

تبدو اقتصادات الحوض الإسلامي من البحر المتوسط وقد تردت إلى أبعد الحدود، ولكن هذا التوصيف ينطبق كذلك على الجانب الجنوبي من الاتحاد الأوروبي، فيما تسعى اليونان وإيطاليا والبرتغال وإسبانيا إلى القروض وأشكال الدعم من أوروبا الشمالية، التي ضاقت ذرعا بذلك بصورة متزايدة.

ومن شأن الاكتشافات الجديدة للنفط والغاز في أميركا الشمالية والصين وإفريقيا، أن تجعل إمدادات البحر المتوسط وممر السويس المفضي إلى الخليج، شيئين غير مهمين بالنسبة لمليار من مستهلكي الطاقة.

تواصل أوروبا الهرمة والآخذة في الانكماش، اجتذاب الشباب من المهاجرين المسلمين من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فهم يرغبون في الخروج من أوطانهم الفقيرة، ولكن المجتمعات الأوروبية الأكثر ثراء التي تجتذبهم كاجتذاب المصباح للفراشات، تستهلكهم بأكثر مما تثريهم.

والاضطرابات الأخيرة في السويد، واغتيال جندي بشكل رهيب في لندن، والاضطراب الدوري في الضواحي الفرنسية، كل هذا يذكرنا بأن البحر المتوسط ليس مقصدا ما بعد حداثي لإمضاء الإجازات فيه، وإنما هو بحيرة راكدة وسابقة للحداثة، حافلة بالتوترات الدينية والسياسية والاقتصادية.

ويمكن للاضطراب في الضفة الغربية وقطاع غزة، وقبرص، وسوريا وليبيا ومصر، أن تشعل نيران العنف في أي لحظة، على أسس عرقية ودينية وسياسية. وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه النقاط المضطربة تكاد تكون غير مرئية بالنسبة لعالم يمتد من شنغهاي فمومباي وسيؤول، إلى بالو آلتو وهيوستن ولندن وفرانكفورت، ليصنع ثروات هائلة جديدة وتقنيات وسلعا استهلاكية، من دون إيماءة إلى البحر المتوسط.

والقلاع الاستراتيجية القديمة في قبرص وجزيرة كريت وصقلية ومالطا وجبل طارق، تصبح بلا أهمية مع انتقال اهتمام الولايات المتحدة إلى آسيا وانتهاء الحرب الباردة منذ وقت طويل. وفي غضون ذلك فإن المجتمعات على الشواطئ الجنوبية والشرقية من البحر المتوسط، تتمحور عند خطوط الانفصال.

من الصعب أن نجد اقتصادا حرا قويا في البحر المتوسط هذه الأيام، وبدلا من ذلك فإن الاشتراكية الأوروبية ونزعة الدولة العربية والتطرف، تؤدي بطرق عديدة إلى تراجع التجارة والنمو.

هل سيعود عالم البحر المتوسط إلى النهوض من جديد؟ إن التاريخ يتحرك في دوائر وليس في خطوط مستقيمة، والمناخ المواتي للمنطقة وجغرافيتها الملائمة، يوحيان بأن هذه العودة إلى النهوض ممكنة.

قبل أن نرى نهضة متوسطية جديدة، يتعين على الحكم الدستوري أن ينتشر في العالم الإسلامي، وينبغي على البيروقراطية المتحجرة في العالم الغربي، أن تشق طريقها إلى الإصلاح أو تختفي، ويتعين على جيل جديد من العباقرة أمثال مايكل أنغلو ودافنشي، أن يؤمنوا بأن في مقدورهم أن يفكروا ويقولوا ويكتبوا كل ما يرغبون فيه، في مناخ من الثقة الاقتصادية والازدهار والأمن.

ومن سوء الطالع أن ثقافة البحر المتوسط تمضي إلى ماضيها الراكد العائد للقرن الثامن عشر، بأكثر مما تمضي إلى القرن الحادي والعشرين.

Email