الحراك التركي والتمدد الإيراني

ت + ت - الحجم الطبيعي

هناك مثقفون عرب يتحدثون عن تركيا بتناسي واقعها الراهن، ولذا نراهم ينبشون الذاكرة المريضة، لاستحضار الصور النمطية السلبية التي تكونت في الأذهان عن تركيا في أزمنة السلطنة العثمانية. وهم يفعلون ذلك للتسّتر على دعمهم لأنظمة الاستبداد والفساد العربية، التي أخفقت في كل ما طرحته من شعارات الوحدة والتقدم والعدالة والمساواة.

غير أن تركيا الراهنة ليست تركيا العثمانية، ففي مسألة التنمية حققت تركيا إنجازاً اعترف به عالمياً. وهي نجحت في ذلك لأنها خرجت من عباءة السلاطين وأزمنتهم، كما خرجت من عصر الإيديولوجيات الطوباوية الفاشلة للتيارات اليسارية، لكي تنخرط في أعمال البناء، على نحو أدى إلى نهوضها وتحديثها لكي تحتل مكانتها على مسرح الأمم المتطورة.

على صعيد آخر، إذا كانت تركيا دولة ديمقراطية، فلأنها خرجت من قوقعتها الدينية مع قيام النظام العلماني الجمهوري الذي أسسه أتاتورك، بالإفادة من الغرب وتجاربه. وهي لم تتخل بذلك عن هويتها، بل هي تمارس هذه الهوية بصورة فعالة، بناءة، راهنة، بنجاحها في مجال التنمية، وحرصها على المحافظة على المكسب الديمقراطي والعلماني.

 وهذا ما أكده رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان في حديثه إلى "الإخوان المسلمين" في القاهرة، حيث قال إن المسلم التقي يقبل العلمانية. وإذا كان أردوغان قد نجح في قيادة تركيا على طريق التحديث والتطوير، سيما في مجال الاقتصاد، فلأنه تصرف كمسلم، وليس كإسلامي يريد أسلمة الدولة والمجتمع.

بالطبع ما زال أمام تركيا الكثير في مجال الحريات الديمقراطية والحقوق المتعلقة بوضعية الأقليات، وإذا كان قادة تركيا الجدد قد اعتمدوا نهجاً يقوم على قواعد الحوار والوساطة في حل المشكلات، كما في تعاملهم مع المسألة الكردية، فهذا ما يؤمل انتهاجه في معالجة الأزمة الحالية التي انفجرت، بداية، ضد سياسة الحكومة، احتجاجاً على إلغاء الحديقة العامة التي تعد من معالم مدينة إسطنبول، لكي يقام مكانها مسجد ومراكز تجارية.

فليس من الحكمة التسرع في هذه المسألة بالتعامل معها بعقل أمني يقوم على التشدد والقمع.. فالأجدى أن لا تعالج بعقل سياسي أحادي أو على المستوى البلدي الضيق، بحيث تطرح على المناقشة العمومية، أو يجري بشأنها استفتاء شعبي، بمشاركة كل القوى والهيئات السياسية والمدنية، وإلا ارتدت الأمور ضد الحزب الحاكم.

قد يكون من التبسيط المقارنة بين ما يجري في ساحة "تقسيم" في إسطنبول، وبين ما جرى في ساحات التحرير وميادينه عربياً، لأن الحراك الشعبي العربي قد انفجر ضد أنظمة أخفقت في ما نجحت فيه تركيا. ومع ذلك للثورات العربية دروسها، إذا شاء أردوغان الذي رد على خصومه بأن بوسعه أن يحشد تظاهرة من مليون شخص، أن يستخلص الدرس:

فالتجديد الذي لا مهرب منه، في هذا العصر المتسارع، قد يأتي ممن هم مستبعدون، تماماً كما أن الأكثرية التي تأتي بها صناديق الاقتراع، قد لا تعبر عن ميزان القوى أو عن حيوية المجتمع وما يعتمل في جوانبه وهوامشه من التيارات والقوى التي تسعى إلى تجديد الحياة السياسية وأساليب الحكم والإدارة.

في أي حال، من المضحكات أن يتهمّ وزير الإعلام السوري رئيس وزراء تركيا بأنه يقود بلاده بأسلوب إرهابي ويدمر مدنية الشعب التركي، فيما تشهد مدن سوريا وقراها وأريافها هذا الدمار الشامل والرهيب.

وهكذا فنحن نعيب على تركيا ما نحن منغمسون فيه، ونتهجمّ عليها أو نشمت بها ونتمنى لقادتها الذين نجحوا في إدارة بلادهم، المصير البائس لزعمائنا وطغاتنا، ليس دفاعاً عن مطالب الحرية والمساواة، بل للتسّتر على فضائحنا وآفاتنا، نحن الذين ننتج الكوارث، تحت شعارات واهية أو مشبوهة، تدمر الحاضر وتلغم المستقبل.. وهذا يقودني إلى الحديث عن المجريات في العالم العربي.

وأبدأ من خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، الذي اعترف، مؤخراً، بكل صراحة ودون مواربة، بأنه يشارك في القتال إلى جانب النظام السوري، لأنه يعتبر سوريا ظهره وسنده.. وهكذا انكشفت الأوراق، ولم يعد ثمة غطاء يستر أو قناع يموه ويخدع.

بالطبع تغيرت الأمور بعد أكثر من سنتين على اندلاع الثورة في سوريا، إذ تغيرت قواعد اللعبة وخارطة القوة. فبعد أن كان النظام فاعلاً إقليمياً يجمع الأوراق ليلعب بها على ساحات الآخرين، ارتدت ضده اللعبة وبات هو الملعب والساحة، مما جعله الحلقة الأضعف في الحلف الثلاثي، بفعل المقاومة السلمية والعسكرية للثورة السورية.

وهذا يفسر طبيعة مشاركة حزب الله إلى جانب الجيش النظامي، إذ هي لم تعد محدودة، بل هي مشاركة واسعة وبأعداد كبيرة، في غير موقع أو محور. وكل ذلك يتم بالطبع تحت لواء المايسترو الإقليمي الذي يقود اللعبة، أعني إيران التي تشارك برجالها وخبرائها وأسلحتها وأموالها، فهي تعتبر أن أمن دمشق بات جزءاً من أمن طهران، كما تشهد التصريحات التي أدلى بها مسؤولون إيرانيون يعتبرون سوريا بمثابة المحافظة رقم 35 في إيران!

وليس هذا القول مجرد زلة أو هفوة، وإنما يعبر عن واقع سوريا التي باتت جزءاً من المشروع الإيراني. ويالها من آخرة آلت اليها سوريا قلب العروبة النابض.

ومن المضحكات أن يقال إن المقاومة تقاتل لدرء الفتنة، فيما النتيجة على أرض الواقع هي التأسيس والتسويغ للحرب الأهلية بين المسلمين.

وهذه هي حصيلة المشروع الإيراني؛ إيقاظ الذاكرة المسمومة لإشعال حرب بين شيعة العرب وسنة العرب، وهكذا نحن إزاء حرب تخوضها إيران ضد العرب، أدركت ذلك أم لم تدركه، بتوسل الشيعة المخدوعين بمشروعها، في هذا البلد العربي أو ذاك، في هذه المدينة أو تلك، في هذا الحي أو ذاك، لخوض حروب تهدد مصالحهم وتخرب علاقتهم بشركائهم في الدول والأوطان.

 

Email