الهوية.. الفتنة والسلطة

ت + ت - الحجم الطبيعي

ثمة خوف على اللغة العربية من التراجع أو اللحن، في مواجهة اللغات الأخرى أو بسبب التداخل معها والاختلاط بها.

من هنا تعقد الندوات وتصدر الدراسات في غير بلد عربي أو عن غير مركز بحثي. والخشية مضاعفة في بلدان الخليج، بسبب الأعداد الكبيرة للمقيمين، للعمل أو لسواه، من غير العرب، ممن يتكلمون بلغاتهم الأم أو باللغة الإنجليزية.

لا شك أننا إزاء مشكلة مهمة، سيما وأن اللغة هي عنوان الهوية ومبنى الفكر ومسكن الوجود.

وما أراه في هذا الخصوص، أن هناك وقائع لا يُخشى منها على اللغة العربية، بقدر ما هناك ظواهر يُخشى منها عليها.

بالنسبة إلى الأمر الأول، بالوسع القول إن اللغة العربية هي من أبرز اللغات في العالم، بل هي لغة إمبريالية، إذ العرب استعمروا العالم لغوياً، باسم الله والدين، بدليل أن هناك مئات الملايين من المسلمين غير العرب، ممن يجهلون العربية، إنما يقرأون القرآن ويقيمون الصلاة ويؤدون الطقوس بالعربية، فضلاً عن أنهم يسمون أبناءهم بأسماء عربية.

بهذا المعنى تشبه اللغة العربية اللغة الإنجليزية أو الأسبانية، من حيث هيمنتها وسعة انتشارها.

ولذا لا خشية عليها.

بالنسبة إلى الأمر الثاني، يحسن بنا قراءة المجريات. فالعالم آخذٌ في التشكل وفقاً لمنطق التشابك في المصالح والمصائر بين الجماعات البشرية، وبحسب ثقافة التعدد لدى الفرد الواحد، تعدد اللغة والجنسية والإقامة والوظيفة.

وكل ذلك يتم على حساب الاندماج والتجانس والصفاء، وهكذا، فالعالم يسير نحو تشكيل هويات هي حقاً أشبه بفسيفساء أو كشكول أو كوكتيل إذا شئنا مفردة حديثة.

وإذا كان هذا الواقع هو مدعاة للخوف على اللغة، ومن ثم على الهوية، من الضعف والتفكك والهجنة فإن مقاومة هذا الاتجاه، للحفاظ على غنى اللغة وحيويتها وأصالتها، تتوقف على قدرة أهلها على الإبداع والابتكار، كما يتجلى ذلك في الآثار الأدبية والأعمال الفكرية، أو في تعريب المصطلحات العلمية والتقنية التي تغزو اللغة العربية.

يضاف إلى ذلك ممارسة الحضور على الساحة العالمية. ومن المفارقات في هذا الخصوص أن مفردات مثل القاعدة، والنصرة، والفتوى، شقت طريقها إلى سوق التداول العالمي، ولكن بمعانيها السلبية.

 وفي المقابل، وبعد اندلاع الثورات أصبحت كلمات مثل "ميدان" أو "نهضة"، تتردد في مقالات الكتاب والمعلقين في اللغات الأجنبية، بمعانيها التحررية والتنويرية.

على أن الأمل، هو أن يكسر العرب احتكار الغرب، للإنتاج الفكري في الفلسفة وعلوم الإنسان، كما فعل سواهم، لكي يسهموا في إغناء عالم الفكر عبر اللغة العربية، بالمصطلحات والمفاهيم الجديدة، أو كما فعل العرب أنفسهم في عصر ازدهارهم الحضاري، حيث تصدروا واجهة الإنتاج الفلسفي والعلمي لقرون طوال.

* الصندوق والفرصة

تحتج الأحزاب الإسلامية التي وصلت إلى السلطة، عبر صندوق الاقتراع، بأن هذه هي فرصتها لكي تحكم وتدير شؤون مجتمعاتها. وكلمة "الفرصة" تتردد اليوم سواء في خطابات الإسلاميين، أو على لسان قواعدهم الشعبية.

ليكن ذلك ولا اعتراض عليه. ولكن ما يتناساه الإسلاميون أو يحاولون طمسه هو أنهم وصلوا إلى سدة الحكم، عبر صندوق الاقتراع، بفضل الحراك الشعبي الذي أطلقه شباب الانتفاضات من المدونين والناشطين. هذا الحراك الهائل هو الذي أفضى إلى سقوط الديكتاتوريات، وهو الذي فتح أبواب الحرية أمام الجميع، وجعل وصول الإسلاميين إلى السلطة أمراً ممكناً.

والأهم من ذلك أن الفرصة التي يفتحها صندوق الاقتراع، سواء أمام الإسلاميين أم أمام خصومهم من القوميين واليساريين والليبراليين، ليست هي فرصة لكي نسيطر أو نستبد، بل لكي نبتكر ونجدد. إنها ليست سلماً للقبض على السلطة وقولبة المجتمع، بعقلية الانفراد والاحتكار والمصادرة.

بل هي إمكان فتح أمام كل القوى والتكتلات التي هي في مركب واحد، فإن غرق فريق غرق معه الجميع، إمكان لاشتقاق آفاق وممكنات جديدة تتيح للشعوب العربية ممارسة حيويتها واستثمار طاقتها الخلاقة.

والأمل، أياً كان الذي يصل إلى السلطة، وفي أي بلد عربي، أن يعمل على ابتكار نموذج للإدارة والتسيير أو للعمل والتشغيل أو للإنماء والبناء، بحيث يحمل بصمة بلده، ويغدو مثالاً ناجحاً يشار إليه، فيقال مثلاً النموذج المصري أو التونسي، كما يقال النموذج الماليزي أو البرازيلي أو الصيني. من غير ذلك تتحول الصراعات السياسية، على السلطة، إلى أداة لإفقار البلاد وإعادة إنتاج الأزمات.

* الدين والفتنة

في لبنان التقى وسط العاصمة جمع من رجال الدين، ومن كل الطوائف، ليؤدوا صلاة مشتركة، جامعة، تدعو إلى التسامح والتعايش بين أبناء الوطن الواحد، في مواجهة أتون العنف وجحيم الفتنة.

حصل ذلك في الثالث عشر من هذا الشهر (أبريل)، بمناسبة ذكرى اندلاع الحرب الأهلية في اليوم نفسه من الشهر نفسه عام 1975. وهي حرب بدأت ولم تنته بعد، بل تحولت من حرب بين المسيحيين والمسلمين إلى حرب بين المسلمين أنفسهم، بقدر ما تغذت من الصراعات السياسية والأيديولوجية في العالم العربي والإسلامي.

قد يكون رجال الدين تأخروا على ممارسة وطنيتهم، حتى لا أقول إنهم قد أتوا بعد فوات الأوان، إذ هم كانوا يرفضون مفهوم المواطنة ومبادئ النظام الديمقراطي، لأن مطلبهم هو إقامة الدولة الدينية أو الخلافة الإسلامية. والحصيلة هي هذه الفتن المذهبية.

ومع ذلك إنها نقطة مضيئة أن يستيقظ نفر من رجال الدين من سباتهم العقائدي، وسط هذا الحشد من الدعاة والجهاديين الذين يقودون موجات التعصب والتطرف والحقد، ليدمروا أواصر التعارف والتواصل بين أبناء الوطن الواحد.

إنها بداية وعي مضاد بالذات أخذ يتشكل عند بعض رجال الدين، سواء منهم الذين يدعون إلى مراجعة نقدية للأطروحات والمشاريع الدينية، أو الذين أدركوا، بعد هذا الدمار المتبادل، أن قيام الدولة العلمانية، المدنية، المحايدة، هي استحقاق لا مهرب منه لوقف مسلسل الحروب الأهلية.

فعسى أن يستخلص الدرس أصحابُ المشاريع الداعية إلى أسلمة الدول والمجتمعات، بحيث يقتنعون بأنه لم يعد بالإمكان تشكيل العالم وإدارته، بدوله ومجموعاته، على أساس الدين، الذي لا يمارسه أتباعه إلا فرقة ونزاعاً، وإنما هو يتشكل ويسير ببناء هويات وطنية عابرة للطوائف، أو هويات إقليمية وعالمية عابرة للقوميات والجنسيات.

 

Email