لطالما عانت العلاقات الروسية الصينية من فتور وصل حد البرودة السيبيرية، وفي أحيان أخرى كاد يبلغ مستوى المواجهة العسكرية المسلحة، وعليه فعندما يزور رئيس الصين الجديد، مركز قيادة الجيش الروسي كأول زعيم أجنبي يفعل ذلك، فإن في الأمر تغيرا جوهريا يؤشر إلى حالة من الانقلاب في التوازنات الاستراتيجية الدولية، تستدعي علامات استفهام جدية وجذرية من نوعية: لماذا؟ وكيف؟

"شي جين بينغ" الرئيس الصيني الجديد، نوع جديد من الرؤساء الصينيين، يجمع بين الأكاديمية فهو حاصل على درجة الدكتوراه في القانون، وبين الممارسة الحزبية بوصفه عضو اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، وسكرتير لجنة الحزب لبلدية شنغهاي، وفي الرابع عشر من مارس المنصرم انتخبه المجلس الوطني لنواب الشعب في اجتماعه العام رئيسا للصين، وهذا يمنحه تلقائيا منصب رئيس اللجنة العسكرية المركزية، بالإضافة إلى منصب الأمين العام للحزب الشيوعي.

ولعل ما يميز الرئيس الصيني الجديد، هو أنه ابن أحد قادة الثورة المقربين من الزعيم الصيني "ماو تسي تونغ"، وبهذا فهو عضو في مجموعة أبناء النخبة الحزبية، التي يسمونها "الأمراء الحمر".

مثير جدا في بدايات "شي جين بينغ" أنه يتوجه مباشرة إلى روسيا الاتحادية، تلك التي كانت إلى وقت قريب أقرب ما تكون إلى العدو الخامل أو النائم إلى حين، غير أنه يفاجئنا هناك بأن "العلاقات الصينية ـ الروسية القوية على المستوى الرفيع، تلبي ليس فقط مصالحنا، بل إنها تعتبر ضمانة متينة للسلام والتوازن الاستراتيجي الدولي".

ليس هذا فحسب، بل إنه "ينبغي على الصين وروسيا تعزيز تعاونهما الاستراتيجي على الساحة الدولية، والدفاع معا عن مبادئ ميثاق الأمم المتحدة، والعمل معا لدعم السلام والاستقرار على الكرة الأرضية".

هل كان "شي جين بينغ"، بالشراكة مع فلاديمير بوتين، يوجهان رسالة ما للقطب الأمريكي المنفرد بمقدرات العالم حتى الساعة؟ أغلب الظن أن ذلك كذلك، فكلاهما يدرك أبعاد الاستراتيجية العسكرية الأمريكية الجديدة للعقود المقبلة، والتي ستمتد إلى المحيط الهادئ لقطع الطريق على التنين الصيني القادم، ولإخماد صحوة روسيا العائدة بقوة على الصعيد العالمي، وما يجري في سوريا، وانتشار قطع الأسطول الروسي في مياه البحر المتوسط، خير شاهد على ذلك..

 هل نحن إزاء تحالف استراتيجي روسي ـ صيني يحاول أن يعيد ملمح وملمس التوازنات الاستراتيجية العالمية في شرق آسيا؟ حتما أنه عندما تفتح أبواب مركز قيادة عمليات القوات المسلحة الروسية أمام الرئيس الصيني، فإن هناك شيئا غير اعتيادي يجري، ويزداد اليقين بوجود تنسيق صيني ـ روسي على أعلى مستوى، انطلاقا من التطابق التام لآراء وزير الدفاع الروسي "سيرغي شيوغو" ورئيس الصين الشعبية، لجهة رفضهما فكرة الدرع الصاروخية الأمريكية.

زيارة "شي جين بينغ" لروسيا ليست زيارة سياحية، بل هي وبحسب نائب وزير الدفاع الروسي الجنرال أناتولي أنتونوف "بداية لتعاون وتطوير عسكري وتقني، غير موجهة ضد أي أحد".. هل هي كذلك بالفعل؟ مما لا شك فيه أن روسيا تدرك أن زمن المجابهات العسكرية مع الصين قد ولى، وأن من الأفضل التواصل جيواستراتيجيا على الأقل، والشراكة مع الصين والوقوف معا في مواجهة الغطرسة الأمريكية، التي تقترب منهما جغرافيا.

والمتابع لبدايات تسلم "شي جين بينغ" مقاليد الحكم في البلاد، يرصد كيف أن الصين قد أعلنت عن زيادة كبيرة في ميزانيتها العسكرية للعام الحالي تصل إلى 88.8 مليار دولار، وإن كان البنتاغون الأمريكي والخبراء الغربيون يؤكدون أن نفقات بكين العسكرية الفعلية تتعدى هذا المبلغ بكثير.

يمتلك رئيس الصين الجديد تحت جلده حكمة خمسة آلاف عام من الحضارة الصينية، نتاجها الصبر والاعتدال المذهلان اللذان تعرب عنهما الصين دوما، وبينغ يتبع النصيحة الحكيمة لـ"دينغ شياو بينغ" القائد المصلح الراحل، الذي أشار إلى ضرورة عدم اللجوء لتحدي القيادة الأمريكية بأي طريقة أو في أي مجال.

لكن تعزيز الشراكة الروسية ـ الصينية، ضروري لخلق جبهة توازنات دولية ترفع عن كاهل الصين مجابهة الأمريكيين، الذين أعلنت وزيرة خارجيتهم السابقة هيلاري كلينتون في نوفمبر 2011 "استدارة واشنطن نحو آسيا"، ما رسم نقطة تحول في السياسة الخارجية الأمريكية، قد تحد من التركيز على منطقة الشرق الأوسط.

ذات مرة ليست بعيدة، تندر زبيغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق، على أوضاع الصين بالقول إنها "محاطة جغرافيا بدول لا تجمعها معها دوما علاقات جيدة، بالإضافة إلى أن حلفاءها قلائل، هذا إن وجدوا". فهل جاءت زيارة "بينغ" لروسيا لتبطل مفاعيل مقولة بريجنسكي؟

حتما أنها خطوة صينية تقدمية بامتياز، لكن تبقى إشكالية العلاقات الصينية اليابانية قائمة ولا شك، وخاصة الخلاف بينهما حول السيادة على أرخبيل صغير في بحر الصين الشرقي، يعرف بجزر دياوبو في الصين وجزر سنكاكو في اليابان.

ومع الأخذ بعين الاعتبار العلاقات الاستراتيجية بين طوكيو وواشنطن، فإن العالم ينتظر الآن ماذا سيفعل "شي جين بينغ" في هذا الإطار، وهل سيقدر له أن يضحى حكيم آسيا الذي ينهي هذا الخلاف، ليشكل مثلثا ضاربا من طوكيو وبكين وموسكو، يغير التوازنات الاستراتيجية الدولية في وجه واشنطن؟