هل جاء اختيار كرادلة الكنيسة الكاثوليكية في "الكونكلاف" الأخير، لحبر روماني هو الأول من قارة أمريكا اللاتينية، ليشكل "ثورة في الفاتيكان" ستقود ولا شك إلى تغيرات جوهرية في طريق إدارة أكبر كنيسة في العالم يمثل أتباعها نحو مليار ومائتي مليون نسمة منتشرين في ست قارات الأرض؟

يبدو أن ذلك كذلك بالفعل، لا سيما وأن الملفات الداخلية والخارجية للمؤسسة الدينية الأكبر في العالم، ربما كانت في حاجة بالفعل لبابا لم يتسلم في حياته أي منصب داخلها، ولهذا فإن يداه حرة طليقة في إعادة تصويب أية أخطاء، دون ماض يتهدده أو مستقبل يتوعده.

وفي كل الأحوال فإن عدم اختيار بابا من أصل إيطالي كما كان متوقعا، وخاصة الكاردينال انجلو سوكولا، يعد تحولا جغرافيا وثقافيا في السلطة على رأس الكنيسة، ومبادرة انفتاح وأمل تطوي صفحة حقبة وتبعد البابا عن الأجواء التقليدية.

عدة تساؤلات تتجلى في الأفق؛ لماذا بابا من أمريكا اللاتينية؟ وما دلالة اتخاذه اسم فرانشيسكو "فرانسيس"؟ ثم هل هو قادر بالفعل على إحداث تغييرات في الكنيسة الرومانية الكاثوليكية؟

ديمغرافيا تبقى أمريكا اللاتينية موقع وموضع النمو المطرد لكاثوليك العالم، جنبا إلى جنب مع نمو عدد من دولها ذات المسحة الكاثوليكية، كالبرازيل والأرجنتين، على الصعيد الاقتصادي والسياسي، إذ تعتبر في قلب دول البريكس.

وربما يعني هذا تاريخيا بدرجة أو بأخرى، أن قلب العالم الكاثوليكي يتحرك من أوروبا مركز الثقل الكاثوليكي العالمي تاريخيا، إلى أمريكا للاتينية حيث الأمل الواعد هناك للكنيسة. وقد حدا الأمر ببعض المنظرين السياسيين والدينيين على حد سواء، إلى الدعوة لتسهيل هجرة كاثوليك أمريكا اللاتينية إلى أوروبا، في محاولة لمواجهة إشكالية نقص المواليد في القارة العجوز.

أما عن دلالة الاسم، فقد كان وبحق مفاجأة على الصعيد الكنسي، ودلالة طيبة للغاية للعالمين العربي والإسلامي.. كيف ذلك؟

الشاهد أنه إضافة إلى أن البابا فرانشيسكو هو الأول من القارة اللاتينية، فهو كذلك أول بابا في تاريخ الكنيسة ينتمي إلى الرهبنة اليسوعية، والتي ينظر لها أوروبيا وعالميا بعين تقدير بالغة، لا سيما وأنها تشتهر بعلمائها من اللاهوتيين الأفذاذ، ودورها في التبشير حول العالم، وكان ولا يزال يطلق على رئيس الرهبنة اليسوعية "البابا الأسود"، بما يعني المقابل في النفوذ والأهمية للبابا الأبيض.

والمعروف أن مؤسس تلك الرهبنة هو الفارس الإسباني "أغناطيوس دي لويولا"، فلماذا لم يحمل البابا الجديد اسم مؤسس رهبنته؟

الثابت أنه اختار اسم "فرانشيسكو" تيمنا بمؤسس رهبنة أخرى، هي الرهبنة الفرنسيسكانية "فرانسيس" أو "فرانشيسكو الاسيزي"، داعي التواضع والحب والرحمة والمنفتح على الخليقة والطبيعة.

أما لماذا الاسم إشارة طيبة للعالمين العربي والإسلامي، فالأمر مرده إلى أن فرانسيس الاسيزي هو القديس الذي وقف في وجه الحروب الصليبية، وهو صاحب الصيحة الشهيرة في ذلك الوقت، 24 يونيو 1219م: "ليس هم الشرقيون الذين يسدون الطريق إلى الأرض المقدسة، بل غضب الله العادل بسبب فجور الأوروبيين".

وقد كانت حجة الطريق المسدود إلى الأرض المقدسة، هي الذريعة التي اتخذت لتبرير تلك السلسلة من الحملات العسكرية.

وقد جاء إلى مصر وقابل السلطان الكامل ابن الملك العادل الأيوبي، الذي أكرم وفادته ومكنه من زيارة الأرض المقدسة في فلسطين، وأقام عنده أياما وليالي دار فيها الكثير من الحوار، وعليه فإن الاسيزي كان صاحب أول حوار بين أوروبا المسيحية والمشرق العربي الإسلامي، وهو حوار قال عنه المؤرخون إنه يفوق في مكسبه الانتصار في أربعين معركة حربية، إذ بحث الاسيزي عن صليب المحبة لا الدم.. فهل سيكون للبابا الجديد نصيب من الاسم، لا سيما وأن هناك الكثيرين الذين يرون في إرث البابا الفخري بنديكتوس السادس عشر، الكثير من المعوقات في الحوار بين أتباع الأديان؟

ماذا عن مقدرة البابا الجديد على تعديل الأوضاع وتبديل الطباع في سنه المتقدم هذا (76 عاما)؟

سؤال يطرح على موائد النقاش، والبعض يراه كذلك بابا انتقاليا، غير أن عالما لاهوتيا كاثوليكيا يشار له بالبنان، هو هانز كونغ الألماني، يذهب إلى أنه لن يكون بابا مؤقتا، وأن سنه المتقدم ليس عقبة في إحداث "ثورة في الفاتيكان". وهناك سابقة تاريخية في هذا السياق، ففي 1958 تم انتخاب البابا يوحنا الثالث والعشرين.

وقد كان متقدما في السن ولم تدم بابويته أكثر من خمس سنوات (1958 _1963) استطاع خلالها إحداث تغييرات في الكنيسة الكاثوليكية، أكثر من تلك التي وقعت خلال الخمسمائة عام التي سبقته، وذلك من خلال دعوته لانعقاد ما عرف بالمجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني 1962- 1965 من القرن المنصرم.

يصعب على المرء أن يحدد الملفات العاجلة التي تحتاج إلى مبضع جراح مثل البابا الجديد لمعالجتها، ربما لتداخلها بين ما هو روحي بالمطلق وما هو دنيوي نسبي، غير أن ملامح البابا الجديد تؤكد أنه سيكون بابا الفقراء في زمن العولمة المتوحشة.

ولعل من لاحظ طلته من الشرفة الفاتيكانية، رصد كيف أنه كان لا يزال يرتدي الصليب الفضي المتواضع الذي حمله طوال أسقفيته، كما أنه لم يتوشح الأردية الحمراء الملوكية في مخاطبته للمنتظرين في ساحة القديس بطرس، وقبل أن يمنحهم هو البركة، انحنى أمامهم طالبا منهم أن يصلوا لأجله ويسألوا له المدد من عند الله.

ليس الفاتيكان فقط المحتاج إلى ثورة روحية وتجديد إيماني إنساني خلاق، بل البشرية برمتها.

هل يفعلها فرانشيسكو البابا كما فعلها سلفه الاسيزي؟