الجنس الناعم في عصر القوة الناعمة

ت + ت - الحجم الطبيعي

كانت المرأة دوماً شريكة الرجل في تدبر شؤون الحياة وصناعة العالم، ومع ذلك فإن المرأة، ولو كانت تبذل، أحياناً، جهداً أكبر من جهود الرجل، تُعامل بوصفِها أدنى من الرجل، من حيث القيمة والمكانة، أو الوظيفة والمهنة...

بالطبع كانت هناك استثناءات جسدتها النساء الشهيرات، اللواتي أوتي لهن أن يتصدرن المشهد ويلعبن على المسرح دور القيادة أو الريادة، في هذا المجال أو ذاك، أمثال كليوباترا وشجرة الدر ورابعة العدوية. ولكن الأكثرية الساحقة ما كانت كذلك، إذ كان ينظر إلى المرأة بوصفها كائناً من الدرجة الثانية، سواء في الواقع أو في الفكر، وكما تشهد خطابات الأنبياء والفلاسفة على السواء.

هذه الوضعية بدأت تتغير مع انبلاج العصور الحديثة، حيث نشأت حركات التحرر من أشكال السيطرة بمختلف أشكالها، ومن بينها الحركات والهيئات المطالبة بتحرير النساء. ولكن التحرر من علاقات العبودية أو الهيمنة، ليس بالأمر السهل، ولا هو ينجز بصورة نهائية. فمع كل مكسب تحققه المرأة، تحاول القوى المحافظة الإطاحة به.

صحيح أن المرأة تعتبر مساوية للرجل، بموجب شرعة حقوق الإنسان. ومع ذلك فهي ما زالت ضحية لمنطق التمييز والإقصاء، أو فريسة لأعمال التحرش والاغتصاب والاعتداء، التي ازدادت وتيرتها في المجتمعات الأوروبية بالذات.

ولذا ليست الحرية طبيعة فُطرنا عليها، كما يفهمها بسذاجة الكثيرون من دعاتها، وإنما هي صناعة لا تتوقف، بقدر ما هي مقاومة دائمة في ما يخص الحقوق والحريات، سواء للمحافظة عليها أو لتوسيع آفاقها ومساحاتها، وهذا ما تشهد به قضية تحرير المرأة، بمختلف موجاتها وأجيالها.

الموجة الأولى غلب عليها الطابع الخلقي، ولذا تركز المطلب على أن تكون المرأة مساوية للرجل، ليس فقط على صعيد القانون، بل أيضاً وخاصة، من حيث وجودها كذات لها شأنها واعتبارها وقيمتها. فالمساواة على صعيد القانون، هي ثمرة للمساواة على صعيد الوجود.

هنا تحضر الكاتبة والفيلسوفة سيمون دي بوفوار (1908-1986)، التي تعد أبرز من صاغ مفاهيم وشعارات الحركة النسائية في مبتداها، بمؤلفاتها ومعاركها ومواقفها وسيرتها التي تركت أصداءها في العالم أجمع، كقولها بأن الأنثى لا تولد امرأة، بل تصبح كذلك.

وهكذا فإن رفيقة جان بول سارتر وصاحبته، قد قلبت النظرة إلى المرأة، بقدر ما غيرت العلاقات بينها وبين الرجل، كما تجلى ذلك في كتابها "الجنس الآخر"، الذي يعد بمثابة إعلان عن ولادة خطاب المرأة بوصفها كائناً لا يقل عن الرجل، من حيث علاقته بمعاني الكرامة والاستقلالية والحرية، أي كل ما يتمتع به الشخص البشري ويجعل الإنسان إنساناً.

الموجة الثانية، هي ذات طابع إيديولوجي، وقد تفرعت عن الأولى بقدر ما شكلت جزءاً من حركات التحرر الوطني. ولذا فقد غلب على أنشطتها منطق السلب والإقصاء، واتخذت طابع العداء للرجل، وكان مصيرها الإخفاق، بقدر ما تعاملت مع قضية الحرية بصورة فردوسية. فقد انتهت إلى إقامة مجتمع نسوي ديكتاتوري، حيث المرأة تستبد بالمرأة، كما استبد دعاة التحرر بمن أرادوا تحريرهم.

الموجة الثالثة كانت ذات طابع إناسي (أنثروبولوجي)، وقد تشكلت في الستينات من القرن الفائت، في أميركا، مع حركات الاحتجاج الواسعة للنساء والسود والأقليات الإثنية، ضد أشكال التمييز والاضطهاد على أساس اللون والجنس أو العنصر والأصل... وقد أسفرت هذه الموجة، بتشكيلاتها وتجمعاتها الطوائفية والهوياتية، عن صوغ مفاهيم جديدة تتعلق بحق الاختلاف والتعدد على مستوى الخصوصيات الثقافية، في مواجهة الهويات الكلية التي كانت تستخدم كستار لتبرير هيمنة خصوصية ثقافية على أخرى.

الموجة الرابعة هي ذات بُعد ثقافي، لا بالمعنى الذي يحيل إلى هوية ثقافية، بل بالمعنى الأشمل للثقافة، بوصفها مقابل الطبيعة. وقد تشكلت هذه المرحلة بالدخول على قضية المرأة من مدخل النقد الثقافي، بالعمل على تفكيك المعتقد الذكوري الذي يبرر سيطرة الرجل على المرأة، بالخلط بين الطبيعة والثقافة، أي بتحويل الاختلافات الجسدية، الوظائفية والتشريحية، بين المرأة والرجل، إلى فروقات قانونية وإدراكية أو خلقية وطبقية..

هذا ما أسفرت عنه الدراسات الثقافية، إذ بيّنت أن الكثير من الصفات والمزايا والأدوار والمهن، التي تعتبر ملازمة للمرأة من حيث طبيعتها الجسدية أو التناسلية، ليست هي كذلك، أي لا تمليها قوانين الطبيعة، وإنما نتاج تاريخي أو بناء ثقافي ذو مفاعيل سلطوية وسياسية، ولذا نجد المرأة تنجح اليوم في مهن وأدوار كان يظن أنها ملازمة لطبيعة الرجل أو حكر عليه. واليوم تبدو المرأة أكثر جرأة وجدة، من حيث مواقفها وأفكارها وطريقة تعاملها مع نفسها وجسدها.

والمثل تقدمه المرأة العربية، التي شاركت في الثورات على قدم المساواة مع الرجل، وكانت سباقة، أحياناً، في جرأتها وفي أفكارها، الأمر الذي فتح المجال لخلق مساحات جديدة للتحرر واكتساب حقوق جديدة.

ولكن المرأة العربية، تواجه الآن ما تواجهه المرأة عموماً. فإرادة التحرر تجابه دوماً بالردة المضادة من جانب القوى المحافظة والتيارات السلفية، التي لجأت إلى رفع سيف التكفير في وجه الناشطات والمدونات.

ولكن لا رجوع إلى الوراء، فالمرأة قد استفادت من العصر الرقمي الذي أطاح بالحدود، بقدر ما أتاح خلق الفرص والإمكانات لممارسة حرية التعبير بالكلمة والمعلومة والصورة، مما لم يكن متاحاً من قبل.

وقد تعزز موقف المرأة، لكونها أحسنت استثمار الثورة الرقمية في مجالات العمل، حيث ظهر تفوقها في هذا الخصوص، كما تشير الإحصاءات، إذ الإناث هن أكثر تفوقاً من الذكور في المدارس والجامعات.

هذا المعطى الجديد، هو ما جعل الفيلسوف ميشال سَرّ يعنون كتابه "الإبهامة الصغيرة"، مستخدماً اللفظ بصيغة المؤنث، وليس بصيغة المذكر، ما دامت المرأة، التي تمثل الجنس الناعم، تتفوق في هذا الزمن الفائق، باستخدام القوة الناعمة، مما حمل البعض على القول بأن المرأة هي مستقبل الرجل، بل إن بعضهن قد تحدثن عن "نهاية الرجل"، كما عنوت كتابها عالمة الاجتماع الأميركية حنة روزان.

ولكن لا تجدر بنا المبالغة، فإذا كانت الحرية ليست فطرة، بل صناعة دائمة ومقاومة دائمة لأشكال التسلط والإقصاء، فمع الانتقال من عصر المنظومة القابضة إلى عصر الشبكة المفتوحة على التواصل والتبادل، تصبح الحرية عملاً دائماً لتفكيك ما يستعبد المرأة والرجل معاً، من الأفكار والقوانين أو المؤسسات والسلطات.

 

Email