حوار العامة والحروب الأهلية

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد مخاض عسير نجحت، وتنجح، حركات التغيير العربية في التخلص من الأنظمة الحاكمة. حدث ويحدث ذلك دون وجود رؤوس أو قيادات مدبرة ظاهرة على الساحة، منذ البدء حتى ما قبل النهاية أو بُعيدها بقليل. لم تكن تلك القيادات معروفةً من قبل، حتى لدى طبقات السياسيين والمثقفين النخبة. تتقدم تلك القيادات متبنّيةً الفكر الثوري والانتفاضات والحركات الشبابية التي أسقطت الأنظمة. القسم الأكبر من تلك القيادات لم يكن من طبقة الشباب، لا فئةً عمريةً ولا ممارسةً عمليةً.

العملية تبدو أشبه بمحاولة السطو على منجزات الجماهير والشباب وتبنّي تلك المنجزات. أضحت الدول التي مر بها ربيع التغيير، تواجه قيادات جديدةً متصارعةً فيما بينها، تتراوح في الأيديولوجيات، من أقصى الأطياف الأيديولوجية المختلفة إلى أقصاها.

من المتوقع الواضح أن تواجه القيادات الجديدة وجماهيرها الإخفاق، بسبب التنازع على السلطة والمال وعلى مراكز وآليات صنع القرار. الدولة، نتيجةً لذلك، ستظل أمام حالة من الفوضى والركود العام، والتشتت والارتباك الفكري الجماهيري الحاشد. حالة ستؤثر ببالغ السلبية على برامج التنمية، وخطط التقدم والتخلص من رواسب العهود السابقة.

القيادات العليا "الطارئة"، لم تحقق الحد الأدنى من التفاهم والتصالح عن طريق الحوار البنّاء. أدى ذلك إلى لجوء تلك القيادات للزج بالأنصار والأتباع والمتعاطفين والموالين، إلى الحوار الصِّدامي والمواجهات عبر الطرق والأساليب الشعبية العامة للحوار والتفاهم.

تتراوح أساليب حوار الشوارع، ما بين المخاطبة بالكلمات النابية، إلى التحشيد والشحن والحض على المحاباة، ثم إلى اللجوء إلى الأدوات الحادة والمواد المؤذية، وقد تتصاعد الأمور أخيراً في اتجاه استخدام واسع للقوة بكافة أشكالها.

تمتد المواجهات بعدها إلى صفوف وثكنات القوى الأمنية من جيش وشرطة، لتصل أخيراً إلى كراسي السياسيين الذين أسسوا لتلك المواجهات. لكل طرف من الأطراف سلبيات وإيجابيات.

حتى الأنظمة السابقة على فسادها وترهلها، كانت لها إيجابيات لا يمكن إنكارها، وإلا لما استمرت في الحكم طيلة عقود وعهود. التنابز فقط بالسلبيات ونكران الإيجابيات، سوف يؤدي حتماً إلى التخندق والتقوقع والبدء في الاقتتال الأهلي أو المدني.

هنالك إيجابيات لدى كافة الأطراف يجب التركيز عليها والأخذ بها، من أجل إحراز تقدم والمضي إلى الأمام لتحقيق الخطوات المنشودة. الاقتصاد في الدول التي مر عليها ربيع التغيير، في حالة لا يُحسد عليها، كذلك هي حال الأنظمة التعليمية والصحية والخدمية.

 الدول بعد التغيير، بحاجة ماسة إلى كل ذرة جهد من أجل الانتقال بها إلى عصر الاكتفاء الذاتي والاستقلال، ما أمكن ذلك. لا توجد عصيٌّ سحرية للانتقال بجهاز إداري أو إنتاجي، من حالة التخلف والترهل إلى حالة الإنتاج والتقدم، وحتى الوقوف على الأقدام.

الحرب الأهلية إن تحدث فسوف لن توفر أحداً أو شيئاً. وحدة ديمغرافية البلاد هي الضحية الأولى لهذه الفوضى، التي هي نتيجة تخبط القادة السياسيين، بادئ ذي بدء. الاقتصاد والثروة والمواقع الاستراتيجية، أهداف أخرى ثمة لا تقل أهميةً. الحضارة والثقافة والهوية والانتماء والولاء، أهداف نهائية للقوى التي ترى في الجبهات الداخلية العربية هدفاً مشروعاً لها، في الداخل ومن الخارج. المنطقة برمتها تتأثر بشكل حيوي، بسبب تكامل وترابط دول المنطقة وشعوبها؛ ديمغرافياً وعمقاً استراتيجياً، الواحدة تلو الأخرى.

المساهمة في إذكاء حالة التخندق والتقوقع والصراع والشحن الحزبي الفئوي الجماعي، خطأ أو أخطاء لا يمكن السكوت عنها. التاريخ والزمن والطبيعة، لا ترحم شعوباً أو فئات لم يحتكم قادتها إلى العقول والمنطق والواقع، للسيطرة على الأوضاع وحل المشاكل والأزمات.

شعوب منطقة الشرق الأوسط بالذات، من أكثر الشعوب حاجةً إلى البعد عن التطرف والتصلب والتشنج والتشدد، وما يتبع ذلك من لامبالاة، في حال تتجه الأوضاع إلى المواجهة المفتوحة بين كتل العامة.

السياسيون مطالبون، وأكثر من أي وقت مضى، بالاستفادة من دروس التاريخ والجغرافيا والسياسة والاقتصاد والاجتماع والفلسفة. ذلك للحفاظ على الأجيال مسيرةً ومصيراً وأمناً وسلاماً، وحمايتها من عودة شبه مؤكدة للدكتاتورية، في حال استمرار الأوضاع في التفاقم.

 

Email