ديكتـاتـوريـة الـديمقـراطيـة

ت + ت - الحجم الطبيعي

تعيش المنطقة العربية، لا سيما تلك الدول التي شهدت ثورات أدت إلى الإطاحة بأنظمتها السياسية الحاكمة، فترة تحول نحو الممارسة الديمقراطية؛ ويمكن أن يطلق على مثل هذه الدول "الديمقراطيات العربية الجديدة".

إن عملية التحول الديمقراطي لمثل هذه الدول هي عملية معقدة، باعتبارها دولاً تفتقر للثقافة السياسية الديمقراطية القوية. ولعل أبرز مثال على ذلك، هو حال مثل تلك الدول العربية التي استطاعت التيارات الإسلامية الوصول إلى الحكم فيها؛ فإيمان هذه التيارات بالديمقراطية يتمحور بشكل أساسي في العملية الديمقراطية الإجرائية، وليس في العملية الديمقراطية الجوهرية.

أي أن هذه التيارات تؤمن بالديمقراطية كوسيلة تستطيع من خلالها الوصول إلى السلطة، إلا أنها لا تؤمن كثيراً بجوهر العملية الديمقراطية، والمتمثل في احترام التعددية والسعي للعمل المشترك مع كافة الأطراف السياسية والمجتمعية، لضمان التطبيق الفعلي لجوهر مفهوم الديمقراطية، الذي يعتمد على فلسفة حكم الشعب.

هذا حال التيارات الإسلامية التي استطاعت أن تصل إلى الحكم في بعض الدول العربية، التي شهدت ثورات شعبية ضد أنظمتها السابقة، وقد يكون هذا هو أيضاً حال التيارات الأخرى غير الإسلامية، التي لو تمكنت من الوصول إلى السلطة لفعلت ذات الشيء، من منطلق الإيمان بحكم الأغلبية.

لقد ضيقت التيارات الإسلامية التي وصلت إلى الحكم في الديمقراطيات العربية الجديدة، مفهوم الديمقراطية في نطاق دائرة حكم الأغلبية، ولم تخرج عنه نحو الفهم الأكبر للديمقراطية، والذي يأخذ في الحسبان أيضاً الأقليات، والسعي لتحقيق التوازن بين الأكثرية والأقلية، بحيث لا تطغى الأكثرية على الأقلية فتفرض الأولى نظرتها وتوجهها على الثانية.

صحيح أن حكم الأغلبية هو الشائع في فهمنا للممارسات الحالية للديمقراطية في العالم، إلا أن ذلك لا يعني أن نصل إلى ديكتاتورية الأغلبية، فتصبح عندها ديمقراطياتنا ديكتاتوريات بغطاء ديمقراطي.

الوصول إلى هذه الحالة لا يؤدي إلى تحقيق ممارسة إيجابية أو ممارسة أفضل، لا سيما لحال معظم الدول العربية التي تعاني شعوبها بدرجة أساسية من فقدان الحد الأدنى من مستوى العيش الكريم.

عندما ثارت الشعوب العربية لم تفعل ذلك بهدف الحرية السياسية، بل كان هدفها أن تأتي بأنظمة حكم تحسن من مستوى معيشتها، وتعاملها المعاملة الإنسانية التي تليق بها. فالحرية السياسية لم تكن هدفاً، بل هي وسيلة من أجل تحقيق هدف أسمى وأكبر، وهو هدف الحياة الكريمة.

والآن وبعد مرور فترة من الزمن على تولي أحزاب وتيارات جديدة للحكم في الدول العربية التي شهدت انتخابات، لم يشهد المواطن تحسناً ملحوظاً في حياته المعيشية أو حتى وضعه الأمني. بل إن التقارير في بعض الدول، تشير إلى أن الوضع يتجه إلى الأسوأ.

والمشكلة في الممارسة وليست في الفكرة، فالفكرة هي نحو التحرر من السيطرة والهيمنة، ولكن الممارسة لم تفعل سوى تعزيز هيمنة وسيطرة جديدة على المجتمع، تختلف في الأسماء والوجه عن النظام السابق، إلا أنها تتماشى معه في الفكر.

إن الديمقراطيات العربية الجديدة، تعيش ما تحدث عنه من قبل الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي في بدايات القرن العشرين حول الهيمنة، حيث اعتبر غرامشي أن الأنظمة الحاكمة عندما تأتي، تفرض ثقافة جديدة على المجتمع تختلف عن ثقافة المجتمع في ظل النظام القديم، وتجعل المجتمع يؤمن بها، وتصبح بالتالي الثقافة الجديدة هي الثقافة الوطنية للدولة، والتي على المجتمع الإيمان بها والالتزام بالدفاع عنها.

للأسف ديمقراطياتنا العربية الجديدة تسير في هذا الاتجاه الذي ذكره الفيلسوف غرامشي. فمع قدوم الديمقراطية جاءت بالطبع ثقافة جديدة في المجتمع، وهي الثقافة المطلوبة، والتي تتمحور حول احترام التعددية والحرية للجميع، لكن المشكلة أن من يصل إلى الحكم عبر الديمقراطية يسعى إلى طمس الثقافة القائمة.

ويعمل على إحلال ثقافة جديدة محلها، تجعل المجتمع ومؤسساته تتمحور في فكرها نحو ثقافة المنتصر في الانتخابات، وكأن المعادلة المعمول بها هي معادلة "يا أنا يا بلاش"؛ وهو بذلك يخلق ديكتاتورية جديدة، عبر هيمنة فكرهِ وبرنامجهِ على مكونات المجتمع.

مثل هذا التفكير وللأسف، لا يصب في صالح المصلحة الوطنية لمثل تلك الدول، ولا يصب في صالح إنجاح التجربة الديمقراطية الجديدة فيها، ولا يمكن أن يعطي نموذجاً إيجابياً للدول العربية الأخرى الساعية للإصلاح والتطوير في المجال السياسي.

صحيح أن المنتصر في الانتخابات يحق له العمل نحو تنفيذ برنامجه، لكنه لا يمكن أن يسعى إلى تغيير الدولة لصالحه وتوجيهها لخدمة مصالحه، لأن ذلك يعد خرقاً واضحاً لمبدأ الحرية السياسية واحترام التعددية، فالدولة أكبر من أن تُختزل في فكر تيار واحد أو حزب واحد، فهي الغطاء الأكبر الذي يجب أن يحتضن الجميع.

 

Email