مع الولاية الثانية للرئيس الأميركي باراك أوباما، ظهر وكأن هناك في الداخل الأمريكي من يتحدث عن ربيع أمريكا، والذي يختلف بالضرورة في الشكل والمضمون عن ربيع العرب، وإن بقي الهدف الرئيسي من ورائه تجديد شباب الأمة ـ الإمبراطورية، وإعادة زخمها بدماء وأفكار جديدة، تمكنها بالفعل من إدراك حلمها القاضي بصبغ العالم وطوال القرن الحادي والعشرين بصبغة أمريكية مطلقة.
وعلامة الاستفهام التي تفرض نفسها في هذا السياق: هل سيقدر لباراك أوباما أن يقود "الربيع الأمريكي" أم أن عوائق بيروقراطية ومصالح براغماتية داخلية لقوى مهيمنه داخل المجتمع الأمريكي، ربما ستحول دون تحقيق ذاك الحلم؟ من أفضل التعبيرات التى قيلت في الأسابيع القليلة المنصرمة، هي "أنه في الولاية الأولى يبرر الرئيس الأمريكي سبب وجوده في الحكم، وفي الولاية الثانية يبرر سبب وجوده في التاريخ".
وصاحبة المقولة هي البروفيسورة في جامعة برينستون "آن ماري سلوتر"، العضوة الفاعلة حتى وقت قريب في شعبة التخطيط في وزارة الخارجية الأمريكية.
هل جاء تشكيل إدارة أوباما الجديدة ليعكس نية فعلية ما ليترك أوباما اسمه ضمن قائمة الروساء الأمريكيين أصحاب الحظوة الحقيقية في كتاب تاريخ الرؤساء الناجزين الفاعلين؟
حتما أن اختياره لكل من جون كيري، المقاتل السابق والسياسي المحنك والمرشح الرئاسي سابقا، لوزارة الخارجية، بجانب تشاك هاغل للدفاع، وجون برينان للاستخبارات المركزية، يعكس رؤية مغايرة للقول بأفول الدور الأمريكي حول العالم، وتراجع نفوذ واشنطن حول الأرض.
والثابت كذلك أن كثيرا من الأقلام التى حللت مشهد الأفول الإمبراطوري الأمريكي في الأعوام الأخيرة، قد عزته إلى حالة الإفلاس الاقتصادي والأزمة المالية التى ضربت أمريكا في القلب.
وقد بلغت الشكوك عقولا أمريكية تعد من كبار المنظرين للسياسات الأمريكية حول العالم، من أمثال "ريتشارد هاس" الذي ربط مؤخرا بين قدرة واشنطن على سداد ديونها للعالم، وبين جهوزيتها لجهة الاضطلاع بدور القيادة في العالم. على أن بعداً جديداً ربما يكون من حسن طالع باراك أوباما، بدأ يتجلى في سماوات الاقتصاد الأمريكي، ولا شك أنه سينسحب إيجابيا وبشكل كبير في العقود القادمة.. ماذا عن هذا؟
ربما يكون الربيع الأمريكي ـ وهو كذلك بالفعل ـ كان في حاجة إلى تجدد الموارد الاقتصادية الأمريكية وفي مقدمتها مصادر الطاقة، بأكثر من البحث عن الحرية والعيش والعدالة الاجتماعية، كما الحال في العالم العربي، ويبدو أن الحظ أوفى للولايات المتحدة بحسب تقديرات وكالة الطاقة الدولية الأخيرة، التى أفادت بأن نمو الإنتاج النفطي في الولايات المتحدة عام 2020، سيفوق مستويات إنتاج السعودية المنتج الأكبر عالميا، ما يعني انخفاض حجم استيراد الاحتياجات النفطية الأمريكية التى تبلغ نحو 20٪ حاليا، إلى مستوى يؤهل قارة أمريكا الشمالية إلى مرتبة مصدر صافٍ للنفط بحلول عام 2020.. ما هي الاستحقاقات الأولية لازدهار أوضاع الطاقة في أمريكا على مجال السياسات الخارجية الأمريكية؟
تاريخيا شكل هاجس التحكم في مصادر ومنابع النفط لدى الولايات المتحدة، محركاً رئيسيا لسياستها الشرق أوسطية، بل رسمت معالم سياسة رؤسائها المتعاقبين، ومهدت لوجود عسكري قوي في منطقة الخليج العربي، ناهيك عن العلاقات التى نشأت مع أنظمة يراها البعض قمعية، من أجل تأمين استيراد النفط منها وإلي عموم الولايات الأمريكية.
أما الآن فإن واشنطن ستجد نفسها متحللة من أي "ربقة نفطية" إن جاز القول، وعليه فإن علامات استفهام كثيرة سوف ترتسم على سياساتها في الشرق الأوسط ومدى الاهتمام بتلك المنطقة من جهة، وكذلك الخليج العربي ودول مجلس التعاون ومآلات التعاون والدفاع المشترك بينها.
على أنه مهما يكن من أمر علاقة الطاقة الأمريكية المزدهرة بالسياسات الخارجية، فإن المشهد الداخلي الأمريكي اقتصاديا، سيشهد ولا شك طفرة ربما غير مسبوقة ونموا غير اعتيادي، وعليه فإن على أوباما أن يضع ملامح ربيع أمريكا الاقتصادي القادم. ولهذا السبب عينه تساءل مؤخرا البروفيسور "جيفري دي. ساكس"، أستاذ التنمية المستدامة ومدير معهد الأرض في جامعة كولومبيا، قائلا: هل تشهد أمريكا عصرا تقدميا جديدا؟
وبدورنا نتساءل؛ هل يمكننا فصل تساؤل البروفيسور دي. ساكس عن ما جاء في خطاب تنصيب أوباما لولايته الثانية؟ الشاهد أن أوباما خصص كل خطابه تقريبا، لتأكيد الدور الإيجابي الذي تضطلع به الحكومة في توفير التعليم، ومكافحة تغير المناخ، وإعادة تشييد البنية الأساسية، ورعاية الفقراء وذوي الاحتياجات الخاصة، والاستثمار في المستقبل عموما.
وفي ظل ربيع اقتصادي أمريكي قادم من وراء مصادر الطاقة المكتشفة حديثا، في ولايات مثل نورث داكوتا ومونتانا، يمكن للمرء أن يستنتج أن هناك "ميلادا جديدا" للمصلحة العامة في أمريكا، ميلادا ربما يعود بنا إلى فكرة "أمريكا مدينة فوق جبل"، لا سيما وأنه إذا حققت أمريكا هذه الخطوات الجريئة عبر سياسات عامة هادفة، فإن الناتج عن هذا من علم مبدع، وتكنولوجيا جديدة وغير ذلك من التأثيرات القوية، من شأنه أن يعود بالفائدة على البلدان في مختلف أنحاء العالم.
في دعايته الانتخابية لولايته الأولى، وعد أوباما الأمريكيين والعالم بالتغيير الحقيقي، وبالأمل وبالمقدرة على تجاوز الواقع إلى الحلم، ومع بداية ولايته الثانية ها هو يلقي بقفازيه في مواجهة أساطين اللوبيات الأمريكية الممثلة لمحاور الرأسمالية المتوحشة في الداخل الأمريكي، بأشكالها المختلفة ماليا، وعسكريا، وثقافيا، ويقينا أنها لن تسلم له بسهولة ويسر، من أجل إعلان "عصر جديد من النشاط الحكومي"، عصر الربيع الأمريكي ذي النسب لفكر الآباء المؤسسين.
إنها لحظة تاريخية سيحكم من خلالها على رئاسة أوباما، لا سيما وأن "بناء الأمة في الداخل" يحتاج إلى إشراقة خاصة، وأياد غير مرتعشة، ومصالحة داخلية، تعيد للعالم معنى ومبنى أمريكا.. رمز الأمل والعمل.. لا أمريكا صنو الهيمنة والأنانية...