العالم السري للإخوان

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما يتحدث به البعض عن العوالم السرية لجماعة الإخوان المسلمين، قد يكون صحيحاً بدرجة كبيرة منذ نشأة الجماعة في عشرينات القرن الماضي حتى الآن. وما يقال عن التنظيمات المسلحة لها وعن الفكر الجهادي الدموي لبعض قادتها، قد يكون صحيحاً بدرجة أو بأخرى، حيث تثبته الكثير من الوثائق والكتابات التاريخية، بدءاً من ممارسات مُنشئ الجماعة، مروراً بالكثير من قادتها البارزين وعلى رأسهم سيد قطب.

لكنني أرى أن العوالم السرية للجماعة تبرز من ناحية أخرى، أكثر أهمية وقيمة ربما من الممارسات السرية التاريخية للجماعة ذاتها. وقبل أن أحدد تلك الممارسات السرية التي تمثل ساحة وافرة لأفراد الجماعة، لا بد من التنويه هنا بالهزائم المنكرة التي نالتها الجماعة عبر انتخابات الطلاب في الجامعات المصرية أخيراً، والتي أشارت إلى هزيمة فادحة لقوائم الإخوان الطلابية، مقارنة بالقوائم الأخرى المستقلة التي تمثل الأحزاب السياسية المدنية التي تناوئ الجماعة فكراً وتصوراً وممارسة.

وهي انتخابات كشفت عن حجم الجماعة، وعن السياقات التي تسهل هزيمتها فيها، مقارنة بالقطاعات السرية التحتية التي تلائم نشأتها وتكوينها وممارساتها.

تكشف تلك الممارسات عن نتائج بالغة الأهمية، تتعلق أولاً بطبيعة الأنشطة السياسية للجماعة، شيوخاً وشباباً وطلاباً، وثانياً بساحة ومجالات تلك الممارسات مجتمعياً ومن ثم بشرياً وجماعياً، وثالثاً الطابع البراغماتي لتلك الممارسات، المتحرر من أي مبادئ أخلاقية أو التزامات أيديولوجية تتسق وخطاب الجماعة المعلن.

لا تنجح ممارسات الجماعة، ولا تستطيع أن تستقطب جماهيرها إلا في سياقات الجهل والفقر والتخلف؛ فحيثما يوجد الفقر وتتسع دائرة الفاقة ويعم الجهل، تنجح الجماعة في استقطاب العديد من الأتباع الساخطين مجتمعياً، والفاقدين لأي أمل مجتمعي حقيقي.

والجهل هنا لا يعني الأمية بمعناها الحرفي؛ فهناك العديد من الأتباع المتعلمين، لكنهم جهلاء بالمعنى الحرفي للكلمة، من ناحية جمودهم العقلي، وغياب قدراتهم النقدية التي تساعدهم على الحوار والنقاش، وهي مسألة تكرسها الجماعة من خلال نظامها الهرمي الجامد والمستبد في الوقت نفسه.

إن أهم أركان سرية الجماعة، يتمثل في القدرة على اصطياد الأتباع ولجم تفكيرهم وهدم ذواتهم، ومن ثم يصبح استخدامهم ليّناً طيعاً سهل المنال.

وهو ما يتفق والممارسات التاريخية للجماعة، القائمة على التغلغل ضمن المجتمعات الفقيرة واكتساب ودها من خلال العطاءات المادية المختلفة، والتي يُرمز لها عادة في أدبيات ما بعد ثورة الخامس والعشرين المجيدة، بـ«عطاءات الزيت والسكر» التي يقوم أفراد الجماعة بتوزيعها على المصريين «الغلابة»، أثناء الحملات الانتخابية على وجه الخصوص.

وتاريخياً، أذكر أن ممارسات الطلبة المنتمين للجماعة في ثمانينات القرن الماضي، كانت تعتمد هذا الأسلوب مع باقي الطلبة؛ من مساعدات متنوعة تتعلق بتصوير الكتب مجاناً، وتوفير الحجاب للطالبات الفقيرات، وغيرها من المساعدات المادية الأخرى، التي تكفل لهم حيازة الأصوات الانتخابية في ما بعد.

لا يعتمد العمل السري للجماعة على هذه التكوينات الفقيرة مادياً والضحلة فكرياً، لكنه يعتمد أيضاً منهجية الإثارة الدينية التي تنشد إقامة مجتمع إسلامي صحيح، من وجهة نظرها، مُكفرة في ذلك باقي التيارات الأخرى، خصوصاً إذا ما كانت هذه التيارات ليبرالية أو يسارية. إن الإثارة الدينية، تكتسب المزيد من الأتباع والمؤيدين.

فمن لم ينتمِ للجماعة عبر زجاجات الزيت والسكر وغيرها من الجوانب المادية الأخرى، يمكن اكتسابه لصفها عبر إثارة حميّته الدينية واستعدائه على التيارات الأخرى «الكافرة»، من وجهة نظر الجماعة. وتعتمد الجماعة التكفير منهجاً ثابتاً في النيل من الخصوم، ويمكن الإشارة هنا إلى الاتهامات الموجهة الآن لقادة جبهة الإنقاذ، والتي تصل لحد الاتهام بالخيانة والتهديد بتصفيتهم.

إن سرية التعامل مع مجتمعات الفقراء والبلهاء التابعين أيديولوجيا، ترتبط بالطابع البراغماتي لممارسات الجماعة، الذي يحررها من أي التزام أخلاقي، سواء تجاه الأتباع أو المخالفين في الرأي أو المنافسين. وهذا الجانب يفسر بدرجة أو بأخرى، حالة الكذب التي ظهرت هذه الأيام، والتي تكشف كل يوم عن ممارسات وتصريحات كاذبة، بما يخالف ادعاءات الانتماء الديني والتأكيد على التمسك به.

وتعود الممارسات الكاذبة هذه، إلى تعود السرية والاحتماء بالمجتمعات المنزوية؛ فعدم التعود على الانكشاف الواضح أمام الآخرين، ومفاجأة التحول من العوالم السرية إلى العوالم العلنية، يفضي لا محالة إلى ممارسات جديدة لم تتعودها الجماعة، وهو ما يفضي الآن لذلك المستوى غير المسبوق من انكشاف الجماعة وتضاربها، وإعلان كذب العديد من ممارساتها وتصريحاتها وسلوكيات قادتها.

لا يبدو أن الجماعة بصدد تطوير نفسها، والخروج من مأزق سريتها، وتعودها على استغلال الفقراء والجهلاء والأميين، واستثارة حميتهم الدينية.

فالمدة الماضية من حكم الجماعة لمصر، أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك، أن الجماعة لا تعرف معنى العمل السياسي الحقيقي، وأنها ما زالت تحكم مصر بعقلية العمل السري المنغلق البراغماتي، وهو أمر لا بد أن تعيه القوى الثورية المناوئة، وتعمل على فضحه واكتساب جماهير جديدة من خلاله.

 

Email