14 آذار.. يوم للحب والكراهية

ت + ت - الحجم الطبيعي

أصبح يوم 14 آذار/ مارس، يوماً للحب والبغض في لبنان. للحب، إذ فيه يحتفل بعيد العشاق كما في كل البلدان. وللبغض، إذ فيه تقام ذكرى اغتيال سياسي لبناني كبير، مع بعض مساعديه ومرافقيه، هو رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري. والحريري قد اغتيل ليس لأنه أخطأ (قد تكون للرجل أخطاؤه كأي إنسان)، ولكنه قتل لحسناته، لا لشيء آخر. قتل لما حققه من إنجازات، على الصعد العمرانية والاقتصادية والتربوية، أسهمت في خروج لبنان من محنته واستئنافه مسيرة نموه وازدهاره.

ولكن الذين قبضوا على البلد الصغير، قد ساءهم أن يأتي رجل لبناني، كرفيق الحريري، يملك مشروعاً للإعمار والإنماء في بلده، فكان ذلك سبباً لتصفيته على هذا النحو الإرهابي الوحشي.

ولهذا فإن الكثيرين ممن كانوا أخصاماً في السياسة للحريري قبل اغتياله، قد غيروا رأيهم بعد الحادثة المشؤومة التي جعلتهم يفيقون من سباتهم، ويدركون أن المستهدف من وراء اغتيال الحريري هو لبنان الذي لا يريد له أصحاب مشاريع الهيمنة والتشبيح الاستراتيجي، أن يعود إلى وضعه الطبيعي، كي يبقى ساحة للصراع، أو ورقة للمفاوضة.

تشهد على ذلك التظاهرة الحاشدة التي جمعت مئات الألوف من الناس في يوم 14 آذار 2005، بصورة عفوية، غير مبرمجة، تحت شعار المواطنة اللبنانية العابرة للهويات الطائفية. فكانت بذلك أول انتفاضة حقيقية، في العالم العربي، ضد عصر الإيديولوجيات الشمولية والأنظمة الديكتاتورية أو السلطوية.

غير أن هذه الانتفاضة كانت تحتاج إلى من ينتج لها ثقافتها ومفاهيمها وتشريعاتها المدنية، لكن زعماء الطوائف، من المعسكرين، أهدروا هذه الفرصة الثمينة، بعقلية المحاصصة الانتخابية، واللعب على الوتر الطائفي والمذهبي.

واليوم يعاد طرح مشروع الزواج المدني الذي قدمه الرئيس الأسبق إلياس الهراوي، والذي رفضه معظم الساسة، وأولهم الرئيس رفيق الحريري. أما نجله سعد الحريري فإنه، وبعكس والده، قد خطا خطوة إلى الأمام. فقد أعلن رئيس الوزراء السابق، أنه وإن كان يرفض لأبنائه الزواج بحسب القوانين المدنية، فإنه يؤيد الزواج المدني الاختياري لمن يشاء.

من غير ذلك، لا معنى لشعار: لبنان أولاً، كما يؤكد عليه سعد الحريري. إن استقلال لبنان وسيادته وحريته ومقاومته، في وجه الضغوط التي تمارس عليه، لتعريبه أو أسلمته، على النهج الشمولي والأصولي، لا تكون إلا باجتراح استراتيجية جديدة وفعالة، تتعدى اللعبة الانتخابية والصراعات السياسية الضيقة، لوضع تشريعات جديدة، تتسع معها مساحة المشترك الوطني الجامع.

وهذا ما يقوم به رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال سليمان، الذي يلقى تأييداً واسعاً، بموافقته على مشروع الزواج المدني، ومباركته، من غير طقوس كهنوتية، عقد زواج شابة وشاب، على القانون المدني.

وقد تبيّن أن الدستور اللبناني، الذي نص على حقوق الطوائف فيما يخص الأحوال الشخصية، قد نص أيضاً على حق الذين لا ينتمون إلى الطوائف الدينية أو لا يتبنون تشريعاتها، أن يختاروا التشريع الذي يشاؤون. من هنا فإن الذين يرفضون الزواج المدني الاختياري ويرفعون سيف التكفير في وجه من يؤيدونه، هم الخارجون على شرعية الدستور والقانون.

والحب لا ينفك عن الزواج.. قد يفضي إليه أو يثير إشكاليته. وإذا كانت قضية الزواج المدني عادت لتتصدر واجهة النقاش العمومي في لبنان، فلأن اثنين جمع بينهما الحب تقدما بطلب لعقد زواجهما في المحكمة المدنية، وليس الشرعية. فكان ذلك بمثابة بداية فك الطوق، بالخروج على السلطة الطائفية وخرق ممنوعاتها البغيضة والجائرة، الأمر الذي نقل مشروع الزواج المدني من الأدراج إلى حيّز التنفيذ.

وهذا شأن الحب، كحدث استثنائي خارق في حياة البشر. إنه يخرق الحواجز الطائفية والطبقية والثقافية واللغوية، لكي يجمع بين أشخاص ينتمون إلى بيئات وهويات وعوالم مختلفة، وربما متعادية. بهذا المعنى يصنع الحب المعجزات، لكي يجعل المستحيل ممكناً. كما تشهد قصص العشاق، قديماً وحديثاً، بطرافتها وغرابتها.

ولا يمكن ألا تحضر هنا المثالات الساطعة كما نجدها لدى مشاهير العشاق العرب. فقد صنع منهم جنون العشق شعراء ابتكروا أجمل الكلام، وتركوا أروع الآثار الأدبية لصرف جنونهم وتخليد حبهم، فأغنوا بذلك معجم الحب بالعديد من المفاهيم والمصطلحات الجديدة والمدهشة. وما كلمة "المجنون" نفسها سوى واحدة من الابتكارات العربية التي تركت أصداءها في اللغات الأخرى، وذلك حيث العاشق لا يعرف باسمه، بل بوصفه أولاً بأنه مجنون، وبنسبته ثانياً إلى معشوقته. فأنت عندما تقول مجنون ليلى، يعرف السامع أن المقصود هو قيس بن الملوّح، وعندما تقول مجنون إلسا يعرف بأن المقصود هو الشاعر الفرنسي لويس أراغون.

وإذا كان الحب هو حدث استثنائي خارق، فإنه حدث له فرادته، بمعنى أنه لا يتكرر؛ كل قصة حب لها شيفرتها ولغزها. كل واحد يختلف في حبه عن سواه، كما يختلف ببصماته وهواماته، تماماً كما أن كل محب يعبر عن جنونه ويخلد عشقه على طريقته، فمن لا يجيد الشعر، يبتكر طريقة أخرى.

ومن أجمل وأطرف ما قرأت في هذا الشأن، قصة ذلك المسلم التركي الذي أحب جارته اليونانية المسيحية. حدث ذلك في بداية القرن السابق، حيث كان الزواج بين الطوائف الإسلامية والمسيحية من المحرمات.

ولكن الرجل بذل المستحيل من أجل حبه، فبنى لحبيبته بيتاً زينه بالرسوم والتماثيل والتحف التي تعبر عن هيامه وإخلاصه، مما حول البيت إلى أثر فني. والمالك الحالي قد اشتراه وأعاد ترميمه لهذا السبب بالذات، أي ليس فقط لطابعه الفني والجمالي، بل لأنه كان شاهداً على قصة حب جميلة.

ولأن الحب يحتل هذه المنزلة الرفيعة في حياة البشر، فإن قصص العشاق وأشياءهم، تكتسي طابعها السحري وتعامل كالأيقونات. ولكن الحب، بوصفه حدثاً، يصعب حصر مفاعيله أو التحكم بمآلاته. إنه ككل حدث فريد، قد يرتد على صاحبه أو ينقلب إلى ضده، سيما بعد أن تستنفد التجربة ويستيقظ العاشقون من سباتهم العاطفي. ولذا ليست المسألة أن ندعو إلى الحب لمواجهة الكره، فالحب لا يحتاج إلى دعوة، لأنه يحدث دوماً بصورةٍ مفاجئة تخالف كل التوقعات والدعوات والحسابات.

المسألة هي: كيف يصرف العاشق هواه ويتدبر علاقته بشريكه، كي لا يقع الحب في الرتابة والملل، أو كي لا يفشل ويقود إلى عنفٍ يدمر العلاقة بين الطرفين.

 

Email