الفوضى والثورة والتغيير

ت + ت - الحجم الطبيعي

تسود حالة من التخبط والتشتت والارتباك والضعف العام، لدى الشعوب التي احتضنت انتفاضات أو ثورات أو حركات تغيير. اختلط الحابل بالنابل، بالنسبة لمصطلح الثوار أو المتمردين أو المسلحين أو البلطجية أو الخارجين على القانون، من قبل هذا الطرف أو ذاك.

هنالك بازار عام نشأ قبل وإبان وبعد ما يسمى بنجاح, أو فشل حركات التغيير. جل ما حدث أنه نتيجةً لتلك الحركات، وقعت زحزحات عن المواقع بالنسبة لطرف من حساب آخر. حكام آفلون وآخرون جدد حلوا محل سابقين، وثمة آخرون متوقعون يحلون محل السابقين أو الجدد الحاليين.

منطقة الشرق الأوسط تتمتع بثقافة فريدة من نوعها بين الأمم والشعوب، وعبر التاريخ. من السهل فيها تأجيج حالة من الفوضى تحت عناوين وأسماء تناسب قادتها، ونوعاً ما شعوبها. حالياً ما يسمى ثورةً، يمكن أن يطلق عليه لاحقاً تمردا أو انقلابا أو تغييرا غير محبذ. تُختار التسميات حسب هواجس وأفكار ومؤثرات داخلية وخارجية، تتفاعل مع بعضها بطريقة تشابه خلط سوائل ومواد تمر بأطوار معينة. العوامل الداخلية تعتمد على ثقافة وتاريخ وأيديولوجيات وأهداف القائمين بالتحرك، والعوامل الخارجية تتلخص في كيفية نظر العالم الخارجي ومراعاة مصالحه إزاء ما يجري في المنطقة.

جيواستراتيجياً يؤثر الوضع في الشرق الأوسط على كتلة بشرية كبيرة، في الداخل والجوار القريب والبعيد، ويتخطاه إلى العالم بأسره. لحسن الحظ، أو بتدبير من القوى الدولية الرئيسية، بقي الوضع المختل أمنياً وسياسياً واجتماعياً، محصوراً في المناطق التي مر ويمر عليها "ربيع التغيير". حتى الدول المعنية بشكل مباشر ومميز وحساس بالأوضاع المضطربة، بقيت نائيةً بنفسها عما يجري من صراعات شديدة بين القوى المحلية.

من حين لآخر تراود الشكوك البعض، من أن ينتقل الصراع بحدة وقسوة وعنف إلى الدول المجاورة والبعيدة. ميادين الصراع في دول الجوار قد تجر إليها بعض دول الجوار الإفريقية، وإيران وتركيا. هنالك مخاوف من أن تمتد ميادين الثورات "الدموية" إلى مناطق بعيدة من تلك التي كانت ضمن المنظومة السوفييتية سابقاً، والروسية حالياً.

بالتأكيد هنالك حاجة ماسة للتغيير، مستحقة منذ عهود وعقود. حاجة تستلزم الإطاحة بأنظمة سياسية توسم بالاستبداد واستفحال الفساد، غير الحميد(!) فيها. لكن ذلك يتطلب تنظيم حركات التغيير بالتعقل والتحكم الواعي، تعقّلٌ يهدف إلى احتواء الأزمات والكوارث الناجمة عن سلوك بشري جماعي حاشد، لم يُحسب حسابه بشكل دقيق وواع ومسؤول. تُرك الأمر يجري بالتغيير، حيث الظروف والمتغيرات تأخذه من حال إلى آخر، أغلبه أكثر سلبيةً وسوءاً من ذي قبل. ذلك حقيقةً، وبالدرجة الأولى، ما يُلقي باللائمة على القيادات المحرِّضة على الثورة، ووسائل إعلامها المختلفة، التي تصل إلى الجماهير في كل مكان تتواجد فيه.

ما قامت به الجماهير والشعوب العربية، هو أعمال جبارة، لكنها قليلة التنظيم والتحكم، والانتقال السلمي البنّاء بالأمور من موضع لآخر. الجماهير والشعوب العربية هي الخاسر الأكبر، من جرّاء حركات غير محسوبة بدقة وعناية. ثمن تدفعه من جهود ودماء وجراح أبنائها، ومن اقتصاديات كانت أصلاً تعاني من النقص والتخلف ونضوب الموارد. الشعوب العربية التي تعرضت وتتعرض لربيع التغيير، سوف تعاني وحتى إشعار آخر، من تبعات الثورة. هذه تتلخص في الفقر والضياع والتشتت والارتباك، وانتظار مذل لمساعدات من الخارج.

باتت نسبة لا بأس بحجمها من الشعوب العربية، لا تخفي تحسرها على غياب الأنظمة البائدة. على الأقل كان هنالك بعض الأمن والأمان، ولا توجد توجسات أو مخاوف من حروب داخلية وأهلية تعصف بالأخضر واليابس.

ما نتج حتى الآن، ناجم عن منهجية عقلية متخبطة، تمتاز بها منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي. عقلية غالباً ما تميل إلى الاعتماد على الغيبيات، والفكر "الطوباوي" الذي يربط بين الآمال والأهداف، دون الخوض في حسابات الخطوات والتفاصيل!

 

Email