«الإخوان» وكهف أفلاطون

ت + ت - الحجم الطبيعي

حينما تناول أفلاطون أوهام المساجين المقيمين في الكهف الذي تخيله، والصعوبات التي واجهتهم بعد خروجهم من عالم الخيالات والأشباح التي تعودوا عليها إلى العالم الخارجي، حيث تضاربت تصوراتهم، واختلط الوهمي بالحقيقي، والمتخيل بالواقعي، فإنه استخدم هذا المثال من أجل إظهار الكيفية التي يقدس بها العقل الأحادي الفكرة الراسخة لديه، بعد فترات معايشة وممارسة معينة، مفضلاً إياها على الواقع الفعلي الذي لم يتعود عليه، ولم تواته الفرصة لاختباره.

وهنا، لا يفكر الأفراد في الواقع بقدر ما يُلزمون هذا الواقع بالأفكار التي اكتسبوها، من خلال الكهف الذي حاصرهم وسجنهم وأسقط عليهم خيالات الأوهام وصورها العبثية، التي أصبحت بالنسبة لهم بديلاً عما هو فعلي وحقيقي.

لقد اعتاد هؤلاء السجناء رؤية ظلال الأشياء الشبحية، المبتورة غالباً، وليس الأشياء ذاتها. وتؤدي هذه الحياة المبتورة التي يعيشها الأفراد، إلى تصورات مشوهة وخاطئة، وهى تصورات لن تنفصل في ما بعد عن جملة ممارساتهم وتوجهاتهم نحو الآخرين.

ينطبق ما قاله أفلاطون، بشكل واضح، على جماعة الإخوان المسلمين في مصر، في أعقاب ثورة الخامس والعشرين من يناير، حيث الخروج من كهف الممارسات التحتية المستترة والخفية، إلى العلن والواقع المعيش.

فالجماعة عبر تاريخها الطويل، خلقت الكهف الخاص بها، كما خلقه الكثيرون بالتوازي. فهذا الكهف نتاج ممارسات الجماعة والنظم القمعية عبر تاريخها الممتد لعقود طويلة، الأمر الذي جعلها تبتعد بدرجة أو بأخرى عن العالم الواقعي والحقائق المرتبطة به، وترتبط أكثر بالأوهام والأشباح المبتورة. وهو أمر أفضى بها، بمرور الوقت، إلى مواجهة صعوبات العيش مع المحيطين بها، والانعزال عنهم، إلى الحد الذي جعل الجماعة تنفصل عن الفضاء المحيط، وترتبط فقط بالأتباع والمريدين، أو المغيبين ضمن عوالم الكهف الشبحية السابقة، التي ما زالت تشكل العالم الفعلي لهم.

يأتي ذلك في ظل الادعاءات المتواصلة من قبل أعضاء الجماعة والقائمين عليها، بالتعامل مع الفقراء والمحتاجين ومد يد العون لهم ولذويهم، رغم صحة ذلك إلى حد ما.

ورغم ذلك، فقد عمق هذا العالم عزلة الجماعة، القائمة على توسيع المسافة بينها وبين أية جماعات أخرى مختلفة معها، أو أي أفراد لا ينتمون لها أو يعارضونها. وهو أمر أدى في النهاية إلى اختزال التعامل مع الآخرين، من خلال أفكار مثالية، ترتكز على أن كل ما يمت لها بصلة هو الصحيح، وما عدا ذلك خاطئ، فكل ما ينتمي للجماعة أو ينبع منها، ينتمي لعالم الأطهار، وما عدا ذلك، فهم الأغيار الآثمون، حتى لو صلوا معنا، أو لبسوا لباسنا، أو تحدثوا خطابنا. وللأسف، فإن الجماعات والتيارات الإسلامية الأخرى، تنطلق من النظرة الدونية نفسها للآخرين، بدرجات متفاوتة في ما بينها.

وللأمانة، فإن الإخوان المسلمين لم يكونوا مسؤولين وحدهم عن تشييد الكهف وتأسيس الأوهام والظلال المرتبطة به، فقد أدت ممارسات السلطات السياسية والأمنية المتلاحقة عبر عقود طويلة من الزمن، إلى تجذر العيش في رحاب الكهف، والتعود على الأشباح المرتبطة به. ولقد أدت هذه الممارسات إلى تعميق ثقافة الكراهية والعنف والحقد الموجه للمجتمع وجماعاته الفكرية والسياسية المختلفة بشكل كبير.

وهو أمر اعتادت عليه الجماعة وغيرها من التيارات الإسلامية الأخرى، الأمر الذي جعله جزءاً حيوياً ومؤثراً من بنية تكوينها، وهو ما لم تستطع الجماعة التخلص منه حتى الآن، وبشكل خاص، بعد وصولها لسدة الحكم في مصر، وتغير الأجواء السياسية القمعية تجاهها.

إن الاعتياد على العنف والتعايش معه، وتشكيل التصورات الحياتية من خلاله، والتعامل مع الفضاء المجتمعي بواسطته، خلق لدى أفراد الجماعة صعوبات جمة، جعلتهم لا يرون أي إمكانية للتعامل مع الآخرين بدون ممارسة العنف نحوهم.

وهي مسألة اتضحت بشكل كبير في الآونة الأخيرة، من خلال التصريحات العدائية من قبل رموز الجماعة نحو قوى المعارضة. ومن خلال غض الطرف، سواء من قبلهم أو من قبل مؤسسة الرئاسة، عن الممارسات القمعية التي انتهجتها قوات الأمن ضد المتظاهرين، ومن خلال الاتهامات المتعلقة بدور الجماعة في ما يحدث تجاه المتظاهرين، وبشكل خاص النساء منهم، بغرض تشويههم وإلصاق التهم بميدان التحرير، رمز الثورة المصرية وعنوان نقائها.

كل ذلك أدى إلى خلق صعوبات هائلة في التواصل مع التيارات السياسية الأخرى، رغم بعض المحاولات القليلة، والادعاء بعكس ذلك. وحينما يصعب التواصل مع الآخرين، وإيجاد أرضية مشتركة للتعامل معهم، تتعزز الأفكار المسبقة التي تفترضها الجماعة عنهم، والتي تهدف في المقام الأول لتحقيرهم والنيل منهم والحط من مكانتهم. وهو أمر ينتقل في ما بعد إلى ممارسة العنف، والتصريح بالقتل، والإفتاء بجوازه ضد المخالفين في الرأي والأيديولوجيا.

هنا، يصبح العنف والقتل أسهل من التعايش والقبول بالآخر، حيث تتجذر أوهام القوة والاستئساد على الآخرين، وهنا تنتقل الجماعة إلى المستوى الأخطر في جملة ممارساتها الشبحية الوهمية، حينما تتصور أنها أكبر من المجتمع، وأكبر من مصر.

فهل سوف تصل الجماعة لمثل هذا المستوى أم لا؟ سؤال سوف تنتظر مصر الإجابة عنه في أتون الصراع اليومي المخضب بدماء الشهداء!

 

Email