الثورة بعد عامين.. فتوحات وتحديات

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما هي الحصيلة بعد عامين من اندلاع الثورات العربية؟ أين صارت؟ ماذا حققت؟ وأين أخفقت؟

هذه قراءة في ما حدث وما ينفك يحدث ويتشكل أو يتغير ويتحول، على سبيل المراجعة النقدية، ومن غير وجه:

* أطلق على الثورات العربية اسم "الربيع العربي"، وهو اسم مستورد مما حدث من ثورات مخملية أو ناعمة في بعض بلدان شرقي أوروبا، بعد تفكك الاتحاد السوفيتي. ولكن مصطلح "الربيع" لا يصف واقع الحال. أولاً؛ لأن الثورات، ولو كانت سلمية، إنما تستخدم العنف، على الأقل على المستوى اللغوي. والعنف الكلامي الذي يمسّ الرموز، قد يجرّ إلى ممارسة العنف المادي والجسدي.

ثانياً؛ لأن الثورات العربية التي أريد لها، في البداية، أن تكون سلمية، مدنية، قد جوبهت، من جانب أنظمة الحكم، بعنف أعمى وفاحش، أو هي نفسها قد استُدرجت إلى ممارسة العنف، ضد عنف النظام، وهكذا فالبدايات تحدد النهايات. أياً يكن فإن مصطلح "الربيع"، الذي أقلعت عن استخدامه منذ البداية، قد بات اسماً على غير مسمى، فيما تشهد المجتمعات العربية الثائرة عنفاً لا سابق له، تضافرت على إنتاجه جملة عوامل: الحقد الطائفي، والمعتقد الاصطفائي، والفكر الفاشي، والاستكبار الديني، والتشبيح الإمبريالي.

* ثمة ظاهرة لافتة في الثورات الجارية، هو أن الذين أشعلوا الشرارة وأطلقوا الحراك الشعبي الذي أدى إلى سقوط الأنظمة السياسية، ليسوا الآن في السلطة.

وإذا كان هؤلاء اللاعبون الجدد من الأجيال الجديدة الصاعدة، الذين أتقنوا لغة العصر، قد فاجأوا العرب والعالم بخلقهم وقائع ومعطيات سياسية واستراتيجية غيّرت علاقات القوة وقواعد اللعبة، فإنهم قد أقصوا عن الواجهة، لصالح المعارضة التقليدية على اختلاف اتجاهاتها القومية واليسارية والإسلامية، أو حتى الليبرالية.

فقد سارع ديناصورات هذه المعارضة إلى ركوب الموجة، لتصدر قيادة الثورة أو مصادرتها بالالتفاف عليها، أو باستغلال صندوق الاقتراع للإمساك بمقاليد السلطة. ومن المفارقات أن الأحزاب التي لم تكن في أصل الحراك وبدايته هي الآن في الحكم، وأن من استبعد قيام الثورة، من المثقفين، في انتظار المعجزة، يشتغل الآن بالتنظير لها.

* لا شكّ أن صعود الأحزاب الإسلامية إلى السلطة، عبر صناديق الاقتراع، قد شكّل الظاهرة الأبرز التي لفتت نظر العالم، بقدر ما أثارت المخاوف والهواجس على ما تحقق وأنجز. وليس مستغربا أن تصل الأحزاب الإسلامية إلى الحكم، أولاً لأنها لعبت على المشاعر الدينية، واستثمرت بعدها الرمزي الذي يلقى صداه العاطفي والإيجابي لدى شرائح واسعة ما زالت مخدوعة بشعارات الإسلاميين. والأهم أن لهؤلاء حزبهم الحديدي العريق، بأجهزته وآلاته الفعالة في التنظيم والحشد والتعبئة، سيما في مواسم الانتخابات.

* هناك كتّاب ومثقّفون أفنوا الشطر الأكبر من حياتهم كدعاة للثورة والتحرر والتغيير، قد وقفوا ضدّ الثورات الجارية، بحجة أنها أسقطت نظام الحكم، وأبقت على بنية المجتمع وعلاقاته.

وهؤلاء، إما أنهم مغرضون وإما أنهم سذّج لا يحسنون قراءة التحولات، ذلك أنه بعد سقوط الأنظمة تتكشف المجتمعات عن عيوبها ومساوئها وتناقضاتها، ولا يمكن بين ليلة وضحاها أن تتغيّر البنى الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. الأمر يحتاج إلى عمل كل مجتمع عربي على نفسه، في مختلف حقوله وقطاعاته وبمختلف قواه وفاعلياته، لإجراء التحولات البنيوية التي ينتقل معها إلى وضع جديد. وهذه مهمة جسيمة، لأن تغيير ما هو راسخ ومتأصل من المفاهيم والنماذج أو القيَم والأساليب، هو من أصعب الأمور.

في أي حال، إن الثورات إذ أسقطت أنظمة الحكم قد حققت إنجازاً كبيراً، بفتحها الأبواب والفرص لتغيير بنيوي يطال اللغات والعقليات والشيفرات، بقدر ما يطال شبكات الفهم ونماذج البناء، أو سلم القيَم ومعايير العمل، أو أنظمة الحقوق وقواعد المعاملة. وهذا شأن الحدث الكبير، من حيث فتوحاته الواسعة وتحدياته الجسيمة. وأتوقف عند بعض ما تغيّر من المفاهيم والنماذج:

ـ الانتقال من نموذج المثقف النخبوي والداعية الجهادي، نحو نماذج جديدة يجسدها "الناشط الميداني" أو "المدون الميديائي". نحن هنا إزاء فاعل جديد أحدث ما فاق التصور، إذ فتح الإمكان لتحويل الخوف إلى جرأة، والقيد إلى حرية، والجهل إلى معرفة، والعجز إلى قدرة.

ـ الانتقال من صنم الزعيم الأوحد والقائد الملهم أو البطل المنقذ، إلى مفهوم الرئيس المسؤول، الذي لا يخترق القوانين، بل يسهر على تطبيقها. ولذا فهو يحاسب وينتقد، على قدر مسؤوليته.

ـ كسر منطق "المنظومة" الأيديولوجية الحديدية التي تشتغل بالقولبة والتطويع والتدجين أو بالشحن والتعبئة، بقدر ما تعمل بعقلية الاتهام والإدانة والاستبعاد أو الاعتقال.

ـ الانتقال من عالم الماهيات المتعالية والهويات الثابتة والحقائق الجاهزة، نحو إدارة الواقع وحل مشكلاته أو تسييره وتطويره، بلغة التحويل الخلاق والتركيب البناء والتفاعل المثمر. فمن لا يخلق ويبتكر، يخفق ويخسر قضيته أو ينتج مأزقه.

ـ الانتقال من قوقعة العقل الأحادي نحو فضاء الفكر التعددي، فالتعدد والتنوع والاختلاف هو الأصل، ولذا فالتعدد يخترق اليوم كل المفاهيم والكيانات والهويات.

هذه حال الديمقراطية.. إنها لم تعد أحادية مقتصرة على صندوق الاقتراع. ثمة أشكال جديدة تبتكر وتجرب، هي الديمقراطية التشاركية، الحية، اليومية... كما تتجسد في الديمقراطية الميديائية عبر الشاشة والصحافة، أو في الديمقراطية القطاعية التي تمارس في كل حقل من حقول المجتمع، أو في الديمقراطية المباشرة والاستثنائية كما تمارس في الميادين والساحات.

من هنا لا مجال، بعد الآن، لانفراد حزب أو قوة بالهيمنة على المجتمع. من حق أي حزب أن يمسك بالسلطة، عبر الاقتراع الديمقراطي، ولكن ليس بوسع حزب أن يسعى إلى الهيمنة على المجتمع وقولبته أو تدجينه.

نحن الآن في عصر التعدد، تعدد المناهج والنماذج، أو الأقطاب والمراكز.. سواء على صعيد العلاقات بين الدول، أو داخل كل دولة. لقد ولّى زمن القوة العظمى الوحيدة التي تهيمن على العالم، كما ولّى زمن الزعيم الأحادي الذي يستعبد شعباً بكامله. فعسى أن يستخلص الدرس، كل من يسعى إلى سدّة الحكم ومنصب الرئاسة، بحيث يعمل بلغة العصر. أما أن نتصرّف كملاّك للقضايا والمجتمعات والبلدان، أو للحقيقة والعقيدة، فمآله ما نحصده من العنف والدمار المتبادل.

 

Email