برنامج «البرنامج»

ت + ت - الحجم الطبيعي

ربما لم تشهد مصر، وربما العالم العربي، ذلك الالتفاف حول برنامج فضائي بمثل هذا الزخم الذي جاوز الملايين، مثلما حدث مع برنامج "البرنامج" لمقدمه الطبيب باسم يوسف. فما أن يحل يوم الجمعة حتى يلتف المصريون بشكل غير مسبوق حول شاشة قناة "سي بي سي"، من أجل مشاهدة البرنامج ومتابعة مادته الساخرة، الجديدة تماما على المشاهد المصري والعربي على السواء.

ويمكن للمرء أن يتابع هذه المشاهدة من خلال عينة عشوائية من مقاهي أحياء القاهرة المختلفة، حتى يلحظ ذلك الالتصاق الغريب والمتصاعد من قبل المصريين لمشاهدة هذا البرنامج. إضافة إلى ذلك، يُلاحظ التنوع الجماهيري المتابع لحلقات البرنامج أسبوعيا، من قبل خليط متنوع تعليميا وثقافيا واقتصاديا وعمريا.

لقد بدأ مقدم البرنامج محاولاته الساخرة الأولى عبر الإنترنت في أعقاب الثورة المصرية، وكان متابعا جيدا للأحداث المختلفة، وبشكل خاص المعادي منها، من خلال ما يتفوه به البعض عبر البرامج المختلفة ومواقع الإنترنت العديدة، وما يكشف عن حجم تناقضات المواقف والتوجهات الأيديولوجية نحو الثورة وقواها المختلفة.

وبعد النجاح الذي لاقته تلك البرامج القصيرة عبر الإنترنت، كانت النقلة التالية باللجوء لشاشات القنوات الفضائية، بما تمثله من جماهيرية أكبر وأوسع وسهولة في الانتشار. وهو أمر ارتبط بعدة أمور سياسية واجتماعية واقتصادية وفرت للبرنامج مادة ساخرة هائلة، منها الصعود السياسي لجماعة الإخوان المسلمين والتيارات الدينية الأخرى، وما ارتبط بذلك من ظهور شخصيات إخوانية وشيوخ سلفيين وقنوات دينية عديدة.

بداية لا بد من الإشارة إلى أننا لم نعتد تلك البرامج المخصصة للسخرية، خصوصا إذا ما توجهت تلك السخرية إلى النظم السياسية الحاكمة وقياداتها. وهو أمر أثار العديد من النقاش والجدل في مصر، بعدما وصلت تلك السخرية لخطابات وتعليقات رئيس الجمهورية ذاته، والعديد من القيادات السياسية رفيعة المستوى.

ويثير ذلك الكثير من الأمور المتعلقة بالمدى الذي سوف يستمر معه البرنامج، ومدى التسامح الذي سوف يحتمله النظام الإخواني تجاهه. وعموما فقد بدأت تباشير الضجر من البرنامج في بعض البلاغات الموجهة ضده للنائب العام المصري.

ورغم ذلك فقد استطاع مقدم البرنامج، وهو بالمناسبة جراح قلب بارع، وحاصل على خبرات طبية عالمية في مجاله، أن يوفر لنفسه من الحماية الجماهيرية ما يصعب على النظام في مصر محاكمته، أو غلق البرنامج، وهو أمر سنترك للأيام القادمة الحكم عليه.

تنوعت القضايا الساخرة التي يتناولها البرنامج؛ من سياسية واقتصادية ودينية وثقافية وغيرها. لكن الأمر الذي لا ريب فيه، هو أن الأجواء السياسية في مصر بعد الثورة فرضت نفسها على معظم حلقات البرنامج.

وبشكل خاص الأخيرة منها التي بدأت مع نهاية العام الماضي وحتى الآن. وتمثلت المادة السياسية في كشف تناقضات جماعة الإخوان المسلمين، وتضاربات أحاديثهم المتكررة والمتناثرة عبر البرامج التليفزيونية المختلفة. فالبرنامج يعتمد على عرض الشيء ونقيضه.

وربما نقيض نقيضه، من قبل أفراد الجماعة وقادتها المختلفين، وهو أمر برز على وجه الخصوص من خلال أحاديث الرئيس محمد مرسي، عبر عرض وعوده الانتخابية وما وصل إليه الحال في مصر الآن. إضافة إلى ذلك، وبسبب دفاع الجماعات الدينية الأخرى عن شخص الرئيس.

فقد وفرت تناقضات المشايخ الجدد وقنواتهم العديدة، مادة ثرية أبرزت ضعف المشايخ وعدوانيتهم، وهو أمر رغم ما أثاره من حفيظة الكثيرين منهم، إلا أنه كشف عن خطورة هذه النوعية منهم، وعن حتمية عودة الأزهر بمفاهيمه الأكثر تسامحا وقبولا لدى الشعب المصري.

ورغم وفرة المادة السياسية وتناقضات القائمين عليها الآن، فإن البرنامج عايش بدرجة أو بأخرى الأزمات الاقتصادية الحادة التي تمر بها مصر، كاشفا عن غياب أي مشروع إخواني حقيقي للنهضة في مصر. وهو أمر برز من خلال حلقة كاملة كشفت عن وهم مشروع النهضة، معتمدا في ذلك على السخرية من تناقضات قيادات الجماعة أنفسهم، والتضاربات الصارخة في تصريحاتهم.

استطاع برنامج "البرنامج" تحقيق نجاحات هائلة في فترة قصيرة، وهو أمر يعود لعدة أمور، يرتبط أولها برغبة المصريين الأثيرة في الهزل والضحك وتجاوز الهموم. وفي الوقت الذي استطاعت فيه جماعة الإخوان المسلمين السيطرة على الدولة المصرية، فإن المصريين يشعرون بقدر ما من الارتياح في وجود برنامج مثل هذا، يكشف حقيقة نواياهم وتوجهاتهم وغياب مشروعاتهم التي يدعونها.

 فكأن المصريين يجدون في "البرنامج" سعادتهم الخاصة في الهرب من أعباء السياسة وضغوط الحياة اليومية من جانب، ويجدون فيه عزاء ينتقص من تلك الجماعة التي يرى قطاع كبير من الشعب المصري أنها خدعتهم وتواطأت عليهم، من أجل الوصول لسدة الحكم من جانب آخر.

يبقى السؤال حول مدى قدرة باسم يوسف على الحفاظ على قوة وزخم سخريته، ومدى قدرته على التقاط تناقضات الواقع المصري الراهن، بغض النظر عن توجهاته الأيديولوجية!

 

Email