مصر التي انقسمت

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يمكن لأي متابع للشأن المصري الحالي، إلا أن يلحظ أن مصر أصبحت مصرين. كنا في السابق نتحدث عن تجانس مصر وسهولة العيش فيها، شعب واحد وأرض واحدة، رغم اختلاف الجغرافيا والطباع ومستوى الانفتاح. كنا في السابق نعيش جنبا إلى جنب نخبة وعوام، مسلمين وأقباطا، فقراء وأغنياء، ليبراليين ويساريين وإسلاميين، صعايدة وفلاحين وقاهريين.. ولم نكن نشعر بحجم هذا الاختلاف الهائل الذي نستشعره الآن، ومستوى العداء الذي نكنه لبعضنا البعض.

ورغم وطأة النظام السابق، وحماقة سياساته، فقد كنا نشعر فعلا بالكلية الجمعية التي تمثل ثراء أي مجتمع وعظمة بقائه واستمراره. كانت مصر توليفة جميلة بكل ما فيها من بعض القبح وشدة الفقر وهيمنة النظام، كانت مصرنا جميعا، ولم تكن يوما ما لفصيل معين، وانتماءات سياسية أو دينية محددة. لم نكن نشعر بهؤلاء القادمين من أعماق الكراهية والرغبة الهائلة في التقسيم والتشتيت وتصفية الحسابات!

نجح الإخوان بامتياز، في ما لم ينجح فيه أحد قبلهم؛ في تقسيم مصر، من أجل مشروع سياسي أحمق، يحقق لهم الاستفراد والهيمنة والاستعلاء.

 وعلى جثث المصريين وتجانسهم وعبقرية بقائهم، استطاع الإخوان أن يقسموا مصر قسمين، قسم مع وقسم ضد. وهو أمر ظهر واضحا من خلال الاستفتاء على الدستور، دستور الإخوان، الذي أظهر حجم الانقسام جليا واضحا لا تخطئه العين، رغم مزاعم الموافقة عليه.

وبعيدا عن دستور الإخوان والسلفيين الذين يتصورون أن كل شيء سوف يتحقق بعد تمرير هذا الدستور، دستور العار والتدليس، فإن الواضح أن حالة الانقسام مستشرية بشكل كبير في كافة أرجاء مصر؛ في الأسرة الواحدة، المدارس، الجامعات، المؤسسات والمصالح الحكومية، الوزارات، سيارات النقل العام، المقاهي..

لن تجد حديثا إلا وينتهي بخلافات جمة بين المصريين؛ قسم يؤيد وآخر يعارض، حتى يصل الأمر إلى الاشتباك والتراشق. لن تجد برنامجا تليفزيونيا إلا وينتهي بعراك وسباب، رغم محاولة الضيوف ادعاء الأدب والتزام الحيدة والموضوعية. لن تجد فصيلا واحدا في مصر يمكن الاعتماد عليه كركيزة للانطلاق لجمع شمل المصريين.

ولمّ بعثرتهم وعراكهم اليومي المستطير. حتى الشيوخ الذين كنا نظن فيهم التعالي على الصراعات والدعوة بالموعظة الحسنة، طالتهم حمى الاختلاف، وأصبحنا لا نسمع منهم إلا السباب بطريقة لم تعهدها مصر في أسوأ عصور الانحطاط التي مرت بها!

كيف انجرت مصر إلى ذلك المستوى؟ وكيف أصابها هذا الانفلات الجمعي الذي يُنبئ بمستويات غير محمودة من التقسيم الفعلي، وويلات الاحتراب الأهلي؟ وهل تواجه مصر ما آل إليه الوضع في إيران من سيطرة حكم الملالي الإخواني السلفي الجديد؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هو الحل؟ وما هي إمكانية الخروج من هذا الوضع الخطير؟

لا يرى الإخوان وأتباعهم في مصر، إلا مجرد ساحة لمشروعهم الإسلامي غير واضح المعالم على الإطلاق. ويعتقد الإخوان كذبا أن الآخرين يعارضون مشروعهم الإسلامي كراهية في الإسلام وتعاليمه، ولا يرون أنهم لا يمتلكون مشروعا إسلاميا حقيقيا بالأساس.

وهنا تكمن الخطورة الحقيقية لما تواجهه مصر الآن. فالمصريون منقسمون فيما بينهم، بخصوص ما يطرحه الإخوان والسلفيون وغيرهم من التيارات الإسلامية الأخرى، حول مشروع إسلامي جديد لمصر.

وربما في أحلامهم للمنطقة العربية والعالم الإسلامي! والمشكلة هنا أننا لا نجد مشروعا فعليا له ملامح محددة وأسس حقيقية، يمكن أن تستند إليه القوى الاجتماعية على اختلاف مشاربها وتوجهاتها الأيديولوجية، بقدر ما نجد شكلا من أشكال الدعوة في أبسط أشكالها البدائية التي لا تليق بمجريات الأمور في القرن الواحد والعشرين.

الانقسام الحادث في مصر هو انقسام حول مشروع وهمي للإخوان، لم تتحدد ملامحه أو أطره الفعلية إلا بما يظهر منه من شذرات متحيزة، وأحاديث صادمة، أو خطب ملتوية.

الواقع أن الانقسام الحالي في مصر، رغم جانبه الوهمي الذي جرنا إليه الإخوان، هو انقسام بين العلم والتخلف، الوعي والاستلاب، الكرامة والخضوع. انقسام تظهر فيه القاهرة واعية بمكانتها وناسها وقدراتها، بحيث تظل شوكة في حلق الإخوان وأتباعهم، شوكة في حلق من يريدون الهيمنة علينا بمشروعاتهم الوهمية الضبابية الظلامية!! وللحديث شجون أخرى.

 

Email