إلى أين تقود الازدواجية الأميركية دول المنطقة العربية والشرق الأوسط؟

على أبواب الدستور الجديد تجد مصر روحها منقسمة في داخلها بين فريقين، أحدهما إسلامي دعمته واشنطن للقفز على السلطة باعتباره الفصيل الذي سيقود البلاد إلى الاستقرار، والآخر ليبرالي علماني طالما تشدقت واشنطن بأهميته.

هل المشهد المصري على هذا النحو من التبسيط المخل؟ بالقطع لا، وعلى من يريد أن يفهم ما يجري بين القاهرة وواشنطن، أن يتذكر المصطلح الذي يفسر عقلية أميركا السياسية «تكافؤ الأضداد في الروح الواحدة».

أميركا تفعل الشيء وعكسه في ذات الوقت، حتى يقدر لها أن تمسك بكل الأطراف في طريقها إلى القرن الأميركي الذي رسم خطوطه المحافظون الجدد في نهاية التسعينات..

هل من دليل على ذلك من قلب الأحداث المصرية الجارية؟ خذ ما جرى الأسبوع الماضي، من جدل بين حكومة الرئيس مرسي وصندوق النقد الدولي الذي أعلن أن المصريين طلبوا إليه تأجيل القرض الذي تطلبه مصر، وقدره 4.8 مليارات دولار. والجميع يعلم حال الاقتصاد المصري، وكيف أن ذلك القرض يمكن اعتباره شهادة ضمان للاقتصاد المصري من تلك المؤسسة الدولية، بأن مصر لم تعد دولة فاشلة، وأن هناك أملاً في استقرار أوضاعها الاقتصادية عما قريب.. وعليه فإنه من المستحيل أن يكون المصريون هم الذين طلبوا تأجيل القرض.

من فعلها إذاً؟ دون أدنى شك الضغوطات الأميركية النافذة في الصندوق، وكأن الأمر فيه ملمح أو ملمس من إنذار أميركي «للفرعون الجديد» بحسب وصف الصحافة الأميركية، أي الرئيس المصري، لا سيما وأن التعديل الدستوري الأخير ثم الإصرار على الاستفتاء على دستور يراه نصف المصريين على الأقل معيباً، أمور وضعت إدارة الرئيس أوباما في مأزق أمام الرأي العام العالمي عامة والأميركي خاصة.

غير أن العجب يتملك المرء مما جرى في نفس يوم إعلان الصندوق، ذلك أن البنتاغون كانت تعلن عن تزويد القوات الجوية المصرية بنحو 20 طائرة حديثة من طراز F 16، ولم تفلح الجهود المناهضة لمصر في الكونغرس حتى الساعة في إثناء إدارة أوباما عن تسليم الطائرات لمصر.

يثور هنا تساؤل؛ ماذا تريد واشنطن من القاهرة في ظل تلك الازدواجية القاتلة؟ هل تعاقبها اقتصادياً من خلال إيقاف القرض المالي التي هي في مسيس الحاجة إليه؟ أم أنها تكافئها بأحدث الأسلحة العسكرية؟

لا يتبقى أمامنا هنا سوى فهم واحد، مفاده أن واشنطن تشق الصف المصري عبر التعاطي المزدوج مع فصيلين؛ أحدهما يمثله الرئيس مرسي والإخوان. والآخر هو المؤسسة العسكرية، التي يستخدم الذهب لضمان ولائها وتأكيد حضورها كصمام أمان يتم اللجوء إليه في مصر عند القارعة.

المعايير الأميركية المزدوجة والمتناقضة يرصدها العالم من حولنا، لا سيما عند المقارنة بين ما يجري في القاهرة وما يحصل في دمشق. وفي الأيام القليلة الماضية ذهبت صحيفة «روسيسكايا غازيتا» الروسية للتأكيد على ما نقول، ودليلها في ذلك هو التصريح الذي أدلى به المتحدث باسم البيت الأبيض جاي كارني، وأعلن فيه أن ما يجري في مصر معضلة دستورية، وأن الشعب المصري هو الجهة الوحيدة التي يتعين عليها أن تجد مخرجاً من هذه المعضلة عبر الحوار الديمقراطي السلمي..

ماذا يعني ذلك المشهد؟ باختصار غير مخل؛ الاعتراف بأن هناك دولة لديها مشاكل داخلية، ولا يتعين على الولايات المتحدة التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى..هل لهذا الأمر علاقة ما بما يجري في سوريا؟ العكس والنقيض تماماً، حيث مشاكل سوريا الداخلية أصبحت منذ فترة طويلة شأناً دولياً، وأعطى العديد من المسؤولين السياسيين الكبار في واشنطن، مهلة على شكل إنذار للرئيس السوري للتخلي عن السلطة، ولاحقاً تم الاعتراف بشرعية الائتلاف المعارض كممثل رسمي في الحديث والتفاوض باسم سوريا، ما يعني تعميق الخلاف القائم بين السوريين أنفسهم في الداخل والخارج.

باراك أوباما يتصل بالرئيس محمد مرسي ليعبر عن قلقه العميق لانتشار العنف غير المقبول في مصر، ويرحب بدعوة مرسي للحوار مع المعارضة «من دون شروط مسبقة».. وما أبعد هذا المشهد عن أوباما ذي القناع الآخر، والذي عبر عامين لم تخفت جهوده الحقيقية في عسكرة الاحتجاجات السلمية في سوريا، وتغذية التمرد فيها بالسلاح والمال والمعلومات الاستخبارية والدعم اللوجستي، والإرهاب الدولي ومرتزقة المتعاقدين الأمنيين مع البنتاغون.

ليس المقصود هنا هو الهجوم على مصر حكومة أو شعباً، وبنفس القدر ليس دفاعاً عن نظام الأسد، إنما جل المراد هو التساؤل لماذا تفعل واشنطن ذلك؟

الجواب نجده عبر صفحات الإنترنت، من خلال الخريطة الجديدة للشرق الأوسط المراد تحقيقه وإدراكه، والخريطة قائمة تحت عنوان Redrawing the Middle East، وهي بمثابة «سايكس - بيكو 2» وفيها سوف يتم تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ عربياً.

في مذكراته تحت عنوان «لا مذكرات»، يقول أديب فرنسا الكبير ووزير ثقافتها ذات مرة «إن العالم العربي والإسلامي يغط في نوم عميق لا يقهر».. هل صدق الرجل؟

ذلك أغلب الظن، لا سيما وأننا نتصارع كأدوات لتحقيق أهداف الآخر المختبئ خلف الازدواجية القاتلة، أمس واليوم.. وربما إلى الأبد.