نهاية الوصاية على القضية الفلسطينية

ت + ت - الحجم الطبيعي

الأحداث تخلق وقائع جديدة على الأرض، إنها تخلط الأوراق وتغير قواعد اللعبة، فيخسر فيها لاعب ويفوز آخر. على هذا النحو يمكن قراءة الحرب التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة. وإذا كان ثمة تغيير أسفر عنه الحدث، فهو عودة مصر للعب دورها على المستوى العربي والإقليمي، بعد أن تراجع هذا الدور تباعاً في عهد السادات وعهد مبارك.

فحرب غزة أتت هذه المرة بعد التحولات الكبرى التي يشهدها العالم العربي، كما تمثلت في الثورات التي غيرت المعادلات في ما يخص علاقة الشعوب العربية بحكامها من جهة وبقضاياها من جهة أخرى.

لقد اعطت هذه الثورات الأولوية للداخل على الخارج، بالتركيز على المسائل السياسية والقضايا الاجتماعية، دون أن يعني ذلك التخلي عن القضية الفلسطينية، إذ لم يعد مقبولاً إرجاء المطالب المتعلقة بالديمقراطية والعدالة والتنمية، بذريعة مواجهة العدو الإسرائيلي، بعد أن استخدم شعار المقاومة، طويلاً، لطمس أو تبرير آفات الاستبداد والفساد. وهكذا، فالثورات قلبت الآية بقدر ما كشفت الورقة، لكي ترتد ضد اللاعبين بها: لا يمكن لمن يكون مستبداً أو فاسداً أن يكون مقاوماً.

من هنا كان للحدث السوري مفاعيله الكبيرة في تغيير خريطة التحالفات، في ما يخص القضية الفلسطينية. فبعد خروج حماس من سوريا، لوقوفها مع الثورة ضد نظام الحكم، فقد النظام الورقة التي كان يحتكرها ويلعب بها، بقدر ما أصبح فعلياً في الصف المعارض للموقف الفلسطيني.

ولا شك أن الخسارة تطال إيران، أيضاً وخاصة، مع أن هذه الدولة لم تتوقف عن دعم المنظمات الجهادية الفلسطينية بالمال والسلاح. ولكن انخراط النظام القائم إلى جانب النظام السوري جعله يسير في عكس الاتجاه، بقدر ما وضعه في مواجهة الثورات العربية، مما أفقده ورقة هامة يلعب بها ويسوغ عبرها حضوره على الساحة العربية والإقليمية. أنتقل من ذلك إلى الطرفين المعنيين مباشرة، وميدانياً، في الصراع الدائر: إسرائيل وحماس، مع سائر القوى الفلسطينية.

لا شك أن الدولة العبرية لم تحقق أهدافها من الحرب، فمجرد سقوط الصواريخ على حدود القدس أو في تل أبيب، يضع حداً لحلم النصر. ربما كان اجتياح إسرائيل للبنان عام 1982 هو آخر الحروب التي تسجل فيها إسرائيل نصراً على العرب، فبعد ذلك تغيرت الخرائط والموازين.

ولا غرابة، فلا يمكن لنظام الاحتلال أن يسحق شعباً مهما طال أمده، كما لا يمكن لنظام الاستبداد أن يسجن مجتمعاً إلى ما لا نهاية. وهذا هو الدرس المستخلص من الحروب الإسرائيلية العربية المتلاحقة: التخلي عن العقل الاستيطاني، العنصري، الأمني، للاشتغال بالحل السياسي الذي يقوم على الاعتراف بالآخر الفلسطيني، سياسياً ووطنياً وخلقياً.

في المقابل، هل حققت غزة، فعلاً، النصر على إسرائيل بصمودها في وجه آلتها العسكرية المتفوقة؟

لا أريد الاستعجال.. إذا نظرنا إلى الخسائر في الأرواح والأرزاق، نجد أن الفارق كبير، كالعادة، وكما كانت النتيجة في حرب يوليو/ تموز عام 2006 في لبنان، حيث الخسائر عندهم لا تذكر، فيما الخسائر عندنا لا تحصى.

بالطبع لن أقول إن حرب غزّة 2012، خيضت بنفس العقلية التي خيضت بها حرب تموز 2006. لأن أهل غزّة يقاومون على أرضهم الاحتلال أو الحصار، في حين أن حرب تموز شنت لأهداف خارجية تتعلق بالاستراتيجية الإيرانية، بحسب ما صرّح الرئيس الإيراني، عشية تلك الحرب: "إذا ضغطوا علينا في الملف النووي نضغط عليهم عبر صواريخ حزب الله". ومع ذلك ثمة ما يحملني على التحفظ على مسألة النصر، من غير وجه:

- أولاً؛ لأن بعض العرب يتقنون، بعقليتهم الخيميائية والسحرية، فن تحويل الهزيمة إلى نصر، كما جرت الأمور في غير حرب ومعركة.

- ثانياً؛ لأن الخسائر جسيمة، فثمة بيوت هدمت ودماء سالت وعائلات أُبيدت، مما يقتضي التواضع بدلاً من الاحتفال. ولكن العقل الاستراتيجي والسلطوي لا يكترث بذلك، إذ هو يعمل ويزدهر بشن الحروب واستثمار دماء الضحايا والأطفال.

- ثالثاً؛ وهو الأهم: كيف يستثمر ما تحقق من صمود؟ هل يستثمر بعقلية الإقصاء والتخوين ومنطق الغلبة لتوسيع الشرخ على الساحة الفلسطينية؟ عندها يتحول إلى لغم لتفجير الوضع الداخلي، كما استثمر "النصر الإلهي" في حرب تموز 2006.

هل يوظف بعقل ديكتاتوري أحادي، شمولي، وفقاً لشعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة والمقاومة"، وهو شعار كلف أثماناً باهظة حيثما طبّق؟ أم يوظف لبناء وحدة فلسطينية متينة بقدر ما هي مركبة وتعددية، ديمقراطية بقدر ما هي مفتوحة على الحوار والتشاور والشراكة؟ هذا ما يؤمل وينتظر.

ولعل ما حدث مؤخراً في مصر، التي عادت إلى الواجهة من خلال القضية الفلسطينية، هو درس للجميع، من فلسطينيين ولبنانيين وعرب وإيرانيين...

فالتظاهرات والاعتصامات، اعتراضاً على سياسة الرئيس محمد مرسي، تشكل موجة ثورية ثالثة، بعد الموجة الأولى التي أسقطت نظام الحكم، والموجة الثانية التي أزاحت نظام العسكر، إذ هي جرت ضد محاولات أخونة الدولة وأسلمة الحياة، وهي تعني أن لا مجال بعد اليوم لتحويل الدم الفلسطيني إلى مشاريع للاتجار والاستثمار، لتحقيق مكاسب سياسية داخلية أو للتشبيح الاستراتيجي على الساحة الإقليمية.

فالمقاومة لأشكال الحجب والاحتكار والمصادرة والفساد والاستبداد، هي أساس كل مقاومة، تماماً كما أن التنمية الدائمة هي الوسيلة لكل مقاومة فعالة، ناعمة كانت أم عادية.

وإذا كانت المقاومة العسكرية هي استثنائية ومؤقتة، فإن المقاومة بصورة سلمية ومدنية، ثقافياً أو سياسياً هي مهمة دائمة، إذ المجتمعات لا تنفك عن إنتاج عقائد وأنظمة أو نزعات ودعوات أصولية اصطفائية، أو أحادية شمولية، أو أيديولوجية طوباوية، تترجم مشاريع مدمرة واستراتيجيات قاتلة.

خلاصة القول؛ ولى زمن احتكار القضايا باسم المقاومة والممانعة. إن تحرير الأرض لا معنى له، إذا كان سيؤول إلى إقامة أنظمة تجعل الناس تترحم على أنظمة الاحتلال والاستبداد. فالتحرر من سلطة العدو أو الطاغية، هو فرصة لخلق إمكانات جديدة للحياة، ببناء مجتمع مغاير ببنيته وعلاقاته وقيمه وحقوقه وحرياته.

ولذا فالرهان هو الانتقال من الاستثمار في أعمال العنف والإرهاب وسفك الدماء وتخريب العمران، للاستثمار في الموارد والطاقات، بخلق ما يحتاج إليه الإنماء والبناء أو التقدم والازدهار، من النماذج والصيغ والقواعد والوسائل والأدوات. وبالطبع فإن ذلك يتطلب قبل كل شيء ابتكار لغة جديدة في قراءة الواقع وإدارته، سواء من حيث أنماط التفكير والتخيل والتقدير، أو من حيث أساليب التدبير والتنظيم والتسيير.

 

Email