"عيش، حرية، عدالة اجتماعية"، كان هذا الشعار ولا يزال المبتدأ والخبر الذي دفع جموع المصريين للخروج على النظام السابق، وهي منظومة رفيعة تقود حتما للديمقراطية، ولم يدر في خلد الشعب المصري أنها يمكن أن تأخذهم في مسيرة ديكتاتورية ولو مؤقتة، كما هو حالهم اليوم.
والشاهد أن روح مصر منقسمة في داخلها اليوم بأقسى وأقصى درجة، وباتت فسطاطين مختلفين؛ واحد يبغي الحرية والديمقراطية وإنجاح الثورة، والآخر يريد بنا العودة إلى أزمنة غابرة تكاد تطابق عهود "محاكم التفتيش".
هل كان الإعلان الدستوري الأخير حقا هدفه الانتصار للثورة أم تكريس للديكتاتورية والاستبداد السياسي؟
الإشكالية الحقيقية التي تواجه "المثقف العضوي"، هي أنه لا يستطيع صبرا أمام المحاولات الدوغمائية لاختطاف الثورة، لا سيما وأن مصر ليست فصيلا عقائديا واحدا، ولا بناء اجتماعيا أو إيديولوجيا منفردا، بل هي سبيكة تشكلت عبر الزمن، وأنتجت قالبا بديعا من التعددية والتنوع الخلاق، ما يعني بالضرورة أن فصيلا بعينه مهما تمسح في أردية الدين والإيمان، لا يمكن أن يقصي أو يعزل بقية أدوات الأوركسترا، ما يمثل نشازا للهرموني المصرية العتيدة.
مشهد الإعلان الدستوري الأخير للرئيس مرسي، يستدعي تساؤلات مثيرة للجدل؛ فهل هو بالفعل رئيس كل المصريين أم ممثل لتيار الإخوان المسلمين؟
ما جرى بالفعل أمام دار القضاء العالي وقبل ساعات من إعلان المتحدث باسم الرئاسة تلك القرارات، يؤكد بالفعل أن الأخوان كان لديهم علم مسبق بتلك القرارات، وأنهم خرجوا مسبقا لتدعيمها في الشارع المصري. يتساءل المراقب للشارع المصري: هل هي قرارات ثورية تدعم استمرارية الثورة أم تعزز سيطرة فصيل سياسي بعينه؟
ربما كان من الموضوعي أن يصفق البعض لقرارات إعادة المحاكمات، إذا كانت قد جاءت في الساعات الأولى للرئاسة الجديدة، أما الآن فما جدوى فتح الملفات وتعطيل أي مسيرة حقيقية للتصالح والتسامح ومن ثم البناء والتنمية؟
حتى الساعة، مصر أمام نموذجين؛ "الحقيقة والمصالحة" كما في جنوب إفريقيا، أو الانتقام المر بما يحمله من ثارات شخصية وتصفية حسابات إيديولوجية وعقائدية وسياسية كما في النموذج العراقي، وشتان الفرق بين النتيجة التي وصلت إليها الأولى وتلك التي آلت إليها الثانية.
هل لهذا الإعلان الدستوري "المنعدم والذي يمثل انقلابا على الشرعية، وعدوانا على الديمقراطية والقضاء"، كما قال المستشار طارق البشري الرجل الذي وقف وراء أول استفتاء على تعديلات دستورية بعد تعطيل دستور 1971، علاقة ما بتقاطعات سياسية خارجية وداخلية؟
بصورة أوضح؛ هل أراد الرئيس مرسي موازنة ما يرضي جماعة الإخوان ومكتب الإرشاد في الداخل من جراء ما اعتبره هؤلاء تقصيرا ما على الصعيد الخارجي؟
يكتب "أريك تراغر" الباحث في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، مشيرا إلى أنه في أعقاب الهجوم الإسرائيلي على غزة دعت الجماعة "مرسي إلى قطع العلاقات الدبلوماسية والتجارية مع الكيان المغتصب، لكي يمكن للحكومة المصرية أن تكون نموذجا يحتذى به للعرب والمسلمين الذين يحافظون على العلاقات مع هذا الكيان".
لكن مرسي لم يفعل ذلك، ودارت عجلة المفاوضات المصرية للتوصل إلى تهدئة كللت بزيارة هيلاري كلينتون لمصر.
هنا يتساءل المرء؛ هل الإعلان الدستوري جاء ترضية لمكتب الإرشاد ودفعا لهم في طريق مشروعهم الجديد الذي يعملون عليه لتعديل معاهدة السلام مع إسرائيل من جانب واحد، أي من قبل مصر؟ أم أنه استبداد داخلي بدعم أميركي، بعد أن بات مرسي رجل واشنطن الجديد في المنطقة ولعب دورا مشابها لما كان من قبل، في توفير الأمن لإسرائيل وتهدئة جماعات المقاومة الفلسطينية المسلحة في غزة، وهو ما يهم واشنطن أكثر كثيرا جدا مما يهمها تحقيق المصريين لأهداف ثورتهم الحقيقية؟
التساؤلات دائما أهم من الأجوبة، لأنها تتيح لنا التحليق وراء حدود الواقع إلى المستقبل، وأي مستقبل ينتظر مصر إذا كان ساستها الذين مارسوا العمل السياسي والحزبي ورموزها الدوليون من أمثال الدكتور البرادعي، يرون أن الثورة على هذا النحو قد أجهضت؟
يبقى في الساحة المصرية الآن فريقان؛ الأول تعرض في الإعلان الدستوري الأخير لضربة موجعة، والثاني يحاول أن يلملم جراحه التي أصابته من جراء تأدية دور غير دوره، وإن كان بوطنيته حاضرا في كل آن وأين.
الفصيل الأول الذي نتحدث عنه هو القضاء؛ حصن مصر الحصين، والذي بات ولا شك في مخاصمة حقيقية مع نظام الرئيس مرسي، ودخل معه في مواجهة قابلة للتصعيد بشكل غير مسبوق، ربما تتعطل معه محاكم مصر إذا لم يتم التوصل إلى ترضية متبادلة، وهو أمر لا يتوقعه أحد، لا سيما في ظل إصرار مرسي كما تبدى من كلمته أمام جموع مريديه.
والفريق الآخر هو جيش مصر الذي تعرض لآلام وجراح كثيرة تم توريطه فيها، رغم دوره الوطني في حماية الثورة، وربما يجد نفسه لاحقا في اختبار حقيقي آخر، وخاصة إذا تصاعدت أعمال العنف وحاول الطرف الثالث من جديد إفساد الحياة السياسية المصرية وتعطيل مسيرة الديمقراطية الحقيقية.
والآن يترك مستشارو الرئيس الواحد تلو الآخر مكانه رفضا لذلك الإعلان، ويكتب أصحاب الأقلام الحرة باعتبارهم مفكرين ومثقفين يتحملون دون غيرهم مسؤولية الاختيار بين تمثيل الحقيقة بأقصى ما يستطيعون من طاقة، وبين سلبية السماح لراع من الرعاة أو سلطة من السلطات بتوجيههم.. فمن وجهة نظر المثقف أو المفكر الحقيقي، أمثال تلك الأرباب دائما ما تخذل عبادها.
هل تصل الرسالة للرئيس مرسي قبل فوات الأوان؟