الانتخابات الأميركية.. منعطف ثقافي واجتماعي

ت + ت - الحجم الطبيعي

كل حدث يستحق أن نقف عنده للتأمل والدرس، لأن الحدث في هذا الزمن الكوكبي يعني البلد الذي يقع فيه بقدر ما يعني العالم أجمع. فكيف إذا كان الأمر يتعلق بحدث أميركي: بقاء أوباما في البيت الأبيض، بعد فوزه المدوي في معركة الرئاسة الضارية، على مستوى كبار الناخبين (303-206).

هناك عاملان يفسران هذه النتيجة؛ الأول يتعلق بشخصية كل من المرشحين ومزاياه، ولا شك أن أوباما كان يملك أرجيحة على خصمه في هذا الخصوص. فبعد تجربة أربع سنوات في الحكم، بدا الرئيس المرشح أقل ادعاء ومثالية، ولذا كان أكثر عقلانية وواقعية وتوازناً في رؤيته للأمور وفي تشخيصه للمشكلات.

أما رومني فكان حالماً، يفكر بعقلية طوباوية، إيديولوجية، تنتمي إلى زمن مضى، ولذا لم يأخذ في الحسبان التحولات التي طرأت على المجتمع الأميركي والواقع العالمي.

بل بدا رومني أصولياً متشدداً في تعامله مع هويته وأفكاره، الأمر الذي جعل البعض يصف آراءه بكونها أشبه بالفتاوى. يتعلق العامل الثاني ببرنامج كل من المتنافسين. وبقدر ما كان رومني أصولياً، من حيث نمطه في التفكير ورؤيته للأمور، فإنه بدا محافظاً شديد المحافظة في موقعه من القضايا التي كانت محل السجال المحتدم بينه وبين خصمه أوباما.

أشير هنا إلى موقف رومني من الأزمة الاقتصادية والقضايا المعيشية والمسائل الثقافية المتعلقة بالهوية والانتماء. كان المرشح الجمهوري مع خفض الضرائب وضد تدخل الدولة في أعمال الرقابة والتنظيم لإصلاح الخلل والفوضى، أي أنه كان مع ترك الحرية للسوق الفالتة من كل عقال. كما كان، على صعيد آخر، مع رفع ميزانية وزارة الدفاع، ولكن كان في الوقت نفسه يقف ضد مطالب الحركة النسوية والحقوق المدنية، ولا ينظر إلى أوضاع من هم في أدنى السلم وعلى هامش النظام. يضاف إلى ذلك مخاطبته الكبار والأثرياء، ورهانه على الشريحة البيضاء من المجتمع الأميركي.

وهكذا تعاطى رومني مع المشكلات الداخلية بعقل ذكوري، عنصري، رجعي، بما يعيد الأمور إلى الوراء، أي إلى السياسات الفالتة والفاشلة التي ولدت الأزمات الاقتصادية لدى المحافظين الجدد. في حين كان أوباما على النقيض من ذلك، يتوجه إلى الطبقات الوسطى وينفتح على المستبعدين والمهمشين من الشرائح والفئات الأقل حظاً ودخلاً. كذلك الأمر في السياسة الخارجية، فقد عمل أوباما على خفض ميزانية الدفاع، وعلى تقليص الوجود العسكري الأميركي في العالم، كما تعامل بعقل ذرائعي، عملي، مع الدول الصاعدة والفاعلة على الساحة العالمية، وخاصة الصين وروسيا.

في المقابل تعاطى رومني مع القضايا الخارجية بعقل إمبريالي أحادي، مؤيداً للتدخل العسكري في الخارج، مدافعاً عن دور أميركا كزعيمة للعالم أو شرطي له، ولذا هاجم روسيا والصين وكال لهما الاتهامات.

هنا أيضاً فكر رومني بطريقة رجعية، تتعارض مع سير العالم الذي أخذ يتخلى عن القوة العسكرية لصالح القوة الناعمة، وبدأ يتشكل وفقاً لمبدأ تعددية الأقطاب والمراكز والنماذج. لكل ذلك بدا رومني أقل إقناعاً ومصداقية من خصمه، فخسر الرهان. ففي حين أثار المخاوف في الخارج بموقفه الإمبريالي والعدائي، فإنه على صعيد الداخل أخاف السود والملونين وذوي الأصول الإسبانية والعربية والشرق آسيوية، فضلاً عن النساء والأجيال الجديدة التي آثرت أوباما.

من هنا تشكل الانتخابات الأخيرة، إذا شئنا استخلاص الدرس، منعطفا ثقافيا واجتماعيا في الولايات المتحدة. فالتجديد لأوباما يعني أن البيض باتوا أقلية، أو على الأقل لم يعد بإمكانهم أن يصنعوا رئيساً.

لا يعني ذلك أن أميركا طوت صفحة العنصرية التي ما زالت شغالة بوصفها طبقة من طبقات الوعي بالهوية، كما يتجلى ذلك، مثالاً، في الموقف السلبي والعدائي للبيض، من الأميركية البيضاء التي تقترن برجل أسود أو ملون.

ولكن ذلك لا يعني، من جهة أخرى، العمل على إنعاش النزعة العنصرية أو المراهنة عليها. فمجيء أوباما رئيساً ، قبل أربع سنوات، أسهم في كسر المنطق العنصري.. والممكن هو تعزيز الثقافة المدنية والرؤية التعددية، بالطبع مع التأكيد على قيم المواطنة والشراكة والمساواة في الحقوق والواجبات. فالتعدد ليس خطراً على الهوية، بل يزيدها غنىً وقوة.

وهذا ما يشهد به تاريخ أميركا، التي هي نظام حديث وفعال وناجح، أكثر مما هي هوية عريقة وراسخة. في المقابل، إذا كان ثمة درس يمكن لأوباما استخلاصه، فهو أن الناخب الأميركي قد جدّد له، ليس لأن الأوضاع كانت ممتازة في عهده، إذ هي كانت على العكس سيئة مع استحكام الأزمة المالية. ولكن الأميركيين خافوا أن تزداد سوءا مع رومني، فاختاروا أوباما علّه ينجح في معالجتها.

لا ينكر أن الرئيس العائد حقق، في الولاية الأولى، بعض الإنجازات المتعلقة بالإصلاح في مجال الصحة وبخلق فرص العمل، ولكن ذلك لا يشكل حلاً للأزمة التي تضرب في أميركا، وفي أوروبا، حيث يتراجع مستوى العيش عما كان عليه في الستينات من القرن المنصرم.

لا شك أن الأزمة أقوى وأخطر من أن تعالج فقط على المستوى السياسي. إنها تحتاج إلى ثقافة جديدة وخلقيات جديدة، يتغير معها نمط العيش سوياً وطرق إدارة المصالح العمومية والمتحدات الوطنية، بحيث يصار إلى توسيع أطر ومساحات الشراكة والتضامن في أعمال الإنماء والبناء وقود المصائر، وعلى نحو يحقق التوزان والتلاؤم بين المشروع الاقتصادي والتقدم الاجتماعي، بين التطور التقني وتحسين نوعية الحياة للعموم.

ولذا فإن الأزمة المتجددة باستمرار، وإن كانت لا تلغي الاختلافات بين جمهوري وديمقراطي أو بين يمين ويسار، ولا ينبغي لها أن تفعل ذلك، فإنها تتجاوز الصراعات بين الأحزاب السياسية والبرامج الإصلاحية. وهذا ما يجعلني أنهي بملاحظتين: الأولى أن أوباما فكر بعقل تداولي، فدعا الجمهوريين إلى اللقاء للحوار والتشاور حول سبل الخروج من الأزمة الاقتصادية، لكي تأتي الحلول مجدية وفعالة. الثانية تتعلق بشخص أوباما الذي خاطب، بعد الفوز، أنصاره والأميركيين عامة بالقول: أنا تعلمت منكم، لقد جعلتموني أفضل، فأنتم أفضل مني. أن يتحدث رئيس إلى الرأي العام على هذا النحو، هو ذروة التواضع والعمل الديمقراطي. وبالطبع، مثل هذا السلوك، هو أشبه بالمعجزة، قياسا على ما يحصل عندنا، نحن الذين نتهم أميركا بمساوئ ومفاسد نمارسها بصورة مضاعفة، خطيرة ومدمرة.

 

Email