البلد المعلّق والوطن المرجأ

ت + ت - الحجم الطبيعي

1 - التحالف المقدس

عندما أثيرت التساؤلات حول مشاركة حزب الله في القتال إلى جانب النظام السوري، كنت أقول: لست محققاً لأتأكد من صحة الخبر، وإنما أنا صاحب عين نقدية ينظر ويتأمل، كي لا يخدع، فيقرأ المجريات، ويحلل السياسات، فضلاً عن النصوص والخطابات.

ولهذا، وقبل اعتراف حزب الله بمشاركته، كان رأيي أن الحزب يوصف بالسذاجة إن لم يكن مشاركاً، أو يخدعنا إذا كان يشارك وينكر ذلك. وبالطبع ليس الحزب ممن ويصف بالسذاجة. ولهذا فهو منخرط في القتال. وهو لا يفعل ذلك دفاعاً عن قرى لبنانية شيعية داخل سوريا، كما حاول أن يخترع المبرر والمسوغ. بل لأنه يشكل مع سوريا وإيران تحالفاً مقدساً لا تنفصم عراه.

أياً يكن، فالحزب مشارك في الحرب الفتاكة الدائرة في سوريا، لأن سقوط النظام السوري يعني سقوط المنظومة الذي هو جزء منها. ولذا فهو لا يحتاج إلى فبركة ذرائع واهية ليبرر انخراطه في الصراع الدائر. بل إني لا أستبعد أن يكون الثلاثي، سوريا وإيران وحزب الله، قد فكروا منذ اندلاع الثورات العربية في تونس ومصر، في كيفية المواجهة بالمال أو بالسلاح والرجال، لما قد يحدث في سوريا من انتفاضات شعبية مماثلة.

في ضوء هذا الفهم لطبيعة العلاقة بين حزب الله والنظام السوري، أي كونها علاقة مصيرية وحاسمة، يصبح من قبيل السذاجة أن يطالب البعض الحزب بسحب عناصره من سوريا؛ وفي المقابل فإن الذين يفتشون عن أعذار لمشاركته في القتال، إنما يخدعون غيرهم أو يقعون ضحية الخداع.

2 - الذئب العربي

من الأحداث التي أثارت الجدل في لبنان، إطلاق طائرة من غير طيار حلقت فوق إسرائيل التي عملت على إسقاطها، ولكن بعد اختراق أجوائها. وليس المهم من أين انطلقت الطائرة، بل المهم، وهو ما أثار الجدل، أن حزب الله تبنى العملية، وأن إيران اعتبرت نجاحها دليلاً على المستوى العالي الذي بلغته في تطوير قدراتها العسكرية.

وبالطبع فإن الكثيرين في لبنان أثنوا على هذا العمل معتبرين أن قوى المقاومة لا تحتاج إلى أعذار في مواجهتها لإسرائيل، لأن هذه الدولة هي المعتدية دوماً، كونها لا تتوقف عن انتهاك سماء لبنان وأجوائه، أي هي الذئب ونحن الحمل، إذا شئنا الاستعارة من عالم الحيوان الذي هو أقل وحشية من عالم الإنسان كما تشهد حروبنا.

هنا أيضاً ينطوي التوصيف على قدر كبير من السذاجة والخداع، لأنه يحجب الوجه الآخر للعملة، بعد أن انكشفت اللعبة وتحول شعار المقاومة إلى غطاء سياسي لتأبيد أنظمة الاستبداد والفساد أو إلى ذريعة للدفاع عن استراتيجية السيطرة والهيمنة على الساحة العربية أو الإقليمية، وبما لا علاقة له بقضية فلسطين، بل بما عاد عليها وعلى لبنان بأفدح الضرر.

وإلا كيف نفسر أن تحدث، تحت شعار المقاومة والممانعة، هذه الحروب المدمرة التي تفوق بمآسيها وفظائعها ما أحدثته الحروب الإسرائيلية العربية؟ كيف نفسر تحول العرب أعداء بعضهم لبعض؟ كفى سذاجة وخداعاً. فالذئب العربي بات على أبناء جلدته أكثر قساوة وشراسة ووحشية، من الذئب الإسرائيلي، كما تشهد التفجيرات البربرية والمعارك الطاحنة في العراق وفي سوريا.

وهكذا، فنحن نفبرك صراعات وحروباً وبطولات وندعي انتصارات لم تعد تخدم أي قضية، بل تترجم في مسلسل الدمار الذاتي الذي يشهده هذا البلد العربي أو ذاك. ولا أعتقد أن هناك ما يسرّ إسرائيل أكثر من الخراب الذي تشهده سوريا قلب العروبة النابض. مما يعني أن العقول مفخخة والنفوس موتورة والمشاريع مشبوهة والشعارات مستحيلة.

3 - اغتيال الدولة

بعد اغتيال رئيس فرع الأمن في لبنان، اللواء وسام الحسن، وما أحدثه ذلك من اضطراب أمني وتوتر سياسي، توالت من جانب الفريق الحاكم والمؤيدين له، المواقف والتصريحات التي تدعو إلى اعتماد لغة الحوار والتعقل، وتحذر من استثمار الحدث سياسياً للقيام بأعمال تزعزع الأمن وتهدد استقرار لبنان ووحدته الوطنية.

هنا أيضاً وأيضاً يبلغ الخداع والتضليل ذروته، بقدر ما تبدو الخطابات والمحاججات متهافتة، واهية، ومن غير وجه:

الأول أن بعض الذين يبدون الحرص على وحدة لبنان، لا يعملون تحت سقفه الوطني، لأن شعارهم المقدس هو المقاومة والسلاح، وما عدا ذلك، أي البلد والوطن والدولة والمجتمع، مسخر لخدمة هذا الهدف، من هنا نجد أن بعض اللبنانيين مستعد لبيع بلده بثمن بخس، كما تبين بعد انكشاف المخطط الإرهابي لتفجير الوضع في لبنان. وتلك هي علة لبنان، الوطن المرجأ والبلد المعلق على صليب المقاومة منذ عقود.

الثاني أن الذين يدعون إلى الحوار، بعد كل اغتيال، لا يريدونه ولا يقدرون عليه، إذ هم لا يملكون أصلاً، تجاه مرجعياتهم الخارجية، حرية الاختيار والقرار. ما بوسعهم أن يفعلوه هو اتقان لغة الإقصاء والتخوين، أو القيام بأعمال الاغتيال والاستئصال، أو على الأقل تغطيتها والسكوت عليها، شعارهم في ذلك إما أن تكون معي وتقبل بشروطي، وإلا تكون عدوي.

الثالث أن الحريصين على أمن لبنان هم الذين كانوا قد هددوا عقله الأمني، أي من يحرص على حفظ الأمن، لأنه كشف "شبكات الإرهاب والعملاء"، كما وصف الحدث رئيس الجمهورية اللبنانية الذي اعتبر أن اغتيال الحسن موجه ضد الدولة.

وإنها لمهزلة أن يأتي بعضهم ليشاركوا في مأتم وسام الحسن، أو أن يتهموا إسرائيل باغتياله، فيما كانوا يهددون ويتوعدون بأن مصيره سوف يكون "التفحم"، فقط لأنه كان يقوم بمهمته الرسمية باحتراف وأمانة وفاعلية، أي لأنه كشف تورطهم وتواطؤهم.

ويالها من نبوءة، عند من يعلم الغيب وما لا يخفى، أن يذهب وسام الحسن ضحية تفجير لم يبقِ أثراً لجسده. هل إسرائيل هي التي دبرت فعلاً الحادثة، كما يقولون ويكررون بشأن مسلسل الاغتيالات الذي يشهده لبنان منذ سنوات؟ في هذه الحالة عليهم أن يشكروا إسرائيل التي تنوب عنهم في هذه المهمة: إلغاء أخصامهم واحداً بعد آخر.

وهذا لا مسمى له سوى "تواطؤ الأضداد" على صناعة الخراب. وتلك هي الخديعة والفضيحة والمهزلة.

 

Email