بالعلم وخدمة «الدولة» تتقدم إسرائيل

ت + ت - الحجم الطبيعي

بغض النظر عن مشاعرنا تجاه إسرائيل ومشروعاتها العنصرية الاستيطانية، واحتلالها لفلسطين وبيت المقدس، فإن الحقيقة الجلية التي لا مراء فيها، أن إسرائيل، سواء اعتبرناها كيانا عنصريا أو نتوءا هامشيا أو مرضا أصاب المنطقة، هى الكيان الأكثر تقدما في المنطقة على كافة المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعلمية.

ورغم استنكارنا وشجبنا وإدانتنا، ليس لنا سوى الإنكار والشجب والإدانة، لما قامت به إسرائيل تجاه مصنع الأسلحة السوداني، الذي لا أشك للحظة أنه بالغ التواضع تواضع التنمية السودانية، فإن الذي لم نقف عنده، خشية الإحساس بالضعة والتخلف، هو مدى القدرات التي يتحلي بها الجيش الإسرائيلي والتي جعلته يطول ما يريد في المنطقة بغض النظر عن المكان والزمان والحساسيات.

علينا أن نضع في الاعتبار أن السودان ضُربت من قبل إسرائيل عدت مرات ولم تفكر، بغض النظر عن إمكانية ذلك، مجرد التفكير، في رد الاعتبار أمام شعبها والعالم العربي! السؤال هنا: لماذا استطاعت إسرائيل أن تصل إلى ما وصلت إليه بينما تخلفنا نحن بحيث لم يعد أمامنا من قضايا سوى التفكير الديني المحض الذي يلفنا ليل نهار بآلاف الفتاوى والأحاديث الغريبة التي لا يربطها بالعالم المعاصر أي رابط؟

أول هذه الأسباب أن إسرائيل تمتعت بقادة تاريخيين لم يهمهم سوى مصالح دولتهم الناشئة، في الوقت ذاته الذي لم يسمح لهم المجتمع بتضخم ذواتهم واستئثارهم بمصالحهم الخاصة. كانت العلاقة منذ البدء واضحة: أنت رئيس في خدمة الدولة ومشروعها، ونحن رقباء عليك يمكننا أن نقصيك إذا لم تقم بواجباتك وأعمالك، وتضع مصلحة الدولة العليا نصب أعينك.

أما عندنا فلم تكن هناك مسافة بين الحاكم والدولة، فقد كان الحاكم هو الدولة والدولة هي الحاكم، وربما ماحدث في دول الربيع العربي خير مثال على صحة هذه الوضعية الشائعة في منطقتنا. هذه الحالة لم تسمح باستشراء الفساد وتراكم الثورات وزيادة الاحتكارات، فتحولت الميزانيات والمخصصات لخدمة المواطن الإسرائيلي وإعلاء مستواه الاجتماعي والاقتصادي مقارنة بالمواطن العربي.

ثاني هذه الأسباب يعبر عن نفسه في الإيمان المطلق بأهمية العلم والمستلزمات الخاصة به؛ فمنذ البدايات الأولى لنشأة إسرائيل ظهرت مؤسسات علمية جامعية وبحثية على أعلى مستوى أكاديمي عالمي، وضعت نفسها ضمن أهم مائة جامعة على مستوى العالم وفقا لتصنيف شنغهاي.

والإيمان بالعلم هنا لا يسير على طريقتنا المزدوجة التي تجعل المهندس أو الطبيب يترك ما اكتسبه من علم وطرائق عملية لا تخطئها العين ليذوب ضمن معتقداته الدينية، بحيث يترك العلم ويتحول لرجل دين.

وإذا كانت إسرائيل ممتلئة بالآلاف من المتطرفين الدينيين فإنها تفصل تماما بين العلم واستخداماته وأهميته واحترامه وتقديره وبين المعتقدات الدينية الشخصية، فهذه نقرة وهذه نقرة! أما عندنا فالمتعلمون يتركون العلم ويتحولون لرجال دين، ناهيك عن رجال الدين الذين يفتون في كل شيئ: في العلم وحقوق الإنسان والدستور والمجتمع والسياسة وحتى الجينات والبيولوجيا والفيزياء.

الكل يسابق الكل في سبيل الحصول على ميكروفون في مسجد أو زاوية من أجل اكتساب الجماهير والسيطرة على عقولهم وفرض آرائه عليهم. وربما تشير الحالة المصرية الآن بجلاء واضح على هذه الوضعية التي تحول من خلالها أقطاب الإخوان المسلمين وعناصر الجماعات الدينية والسلفية إلى فقهاء لهم مطلق الحرية في الحديث في السياسة والاقتصاد والدين والثقافة والقضايا الكونية.

وبينما انطوت إسرائيل على خطط تعليمية متواصلة مكنتها من التطور الصناعي والتقني الرفيع فإن العرب لم يراكموا مستويات تعليمية فعلية، ومازالت الصناعات التجميعية والخدمات السياحية هي عنوان حضارتهم وذروة رقيهم!

ثالث هذه العناصر يظهر في القدرة على الإنفتاح على الآخرين والاستفادة من تجاربهم وما وصلوا إليه. صحيح أن الغرب وقف مع إسرائيل وساندها بقوة في أحيان وبتعنت وظلم للعرب في أحيان أُخر، لكن الوجه الآخر يكمن في أننا لم نحسن التعامل مع الغرب طوال القرن العشرين وحتى الآن، وكنا عدائيين في سلوكياتنا وتصوراتنا التي جعلتنا نتمركز حول ذواتنا ونتصور أننا الأفضل والأحسن والأطهر. ولعل ما قامت به القاعدة تجاه الولايات المتحدة يمثل ذروة العداء الذي ضمرناه للآخر الغربي، ورغبتنا الآثمة في القضاء عليه والتخلص منه.

وعلينا ألا ننسى أن التصورات الدينية الخاطئة التي قدمها الفقهاء ووكلاء الدين قدمت معينا هاما لهذه الفرضيات وساعدتها على التحول من الممارسات الفكرية الخالصة إلى الممارسات العملية التي ظهرت في مواجهة كل ما هو غربي.

رابع هذه العناصر يكمن في حالة التصالح في العلاقات بين الجنسين في المجتمع الإسرائيلي، وعلينا ألا ننسى أن أول وآخر رئيسة للوزراء في المنطقة كانت إسرائيلية. هذا التصالح يعني انسجاما مجتمعيا في العمل والعلاقات والاستفادة من كافة عناصر المجتمع بدون تمييز وحط من وضعية المرأة وهوس دائم بجسدها.

أما عندنا فمازالت العلاقة متوترة ظاهرها المحبة والتقدير والاحترام وباطنها التوجس والخوف والهيمنة. ولعل ما يحدث من خطاب الجماعات السلفية في مصر نحو المرأة وما يتعلق بها في تأسيسية الدستور يكشف عن تراجع هائل في الرؤى، وربما يكشف عن حالة تواطؤ على المستوى النفسي لا تخلو من انتهازية! وأخيرا لا يخلو الأمر، بجانب هذه العناصر السابقة، من جوانب كثيرة تتعلق بتركيبة الشخصية العربية والمشكلات المرتبطة بها، وهو أمر يستدعي حديثا آخر إن شاء الله!!

 

Email