بيار بورديو وإدوار سعيد.. مقاربات ومقارنات

ت + ت - الحجم الطبيعي

سألني متدّخل، ذات ندوة، سؤال المستفهم والمعترض، حول موقفي النقدي من الفيلسوف وعالم الاجتماع الذي بات بغنى عن التعريف: بيار بورديو (1928-2002)، وما ذكرته أن موقفي منه هو مزدوج. فأنا أفدت من المفاهيم التي بلورها وصاغها حول الواقع الاجتماعي مثل الحقل، والعُرف، ورأسمال الرمزي...

ومع ذلك فأنا عارضته في رؤيته المطلقة أو المغلقة للحقيقة، كما يشهد قوله بوجود "حقيقة أولى ونهائية" يصل إليها العالم الدارس في ما يخص معرفة الواقع الاجتماعي. ولكن هذه الرؤية فقدت مصداقيتها مع تقدم العلوم وتطور الأفكار. فلا توجد حقائق نهائية، لأن ما ننجزه عبر ما ننتجه من معارف هو بناء نماذج أو خلق حقائق تفسر الواقع، بقدر ما تسهم في تغييره.

وفي تغيير مفهومنا للحقيقة نفسها. من هنا كانت معارضتي له أيضاً في نظرته الحتمية والصارمة كما تجسدت في استخدامه لمفهوم العرف (Habitus)، الأمر الذي حوّل الفاعل الاجتماعي الى مجرد "أبله ثقافي"، كما أخذ عليه بعض نقاده في فرنسا، بمعنى أنه حوّل الفاعل (Agent) الى مفعول به، بقدر ما جعله أسير المسبقات والتقاليد والعادات الخاصة بكل حقل أو طبقة أو فئة...

وأخيراً كان لي اعتراض على بورديو بخصوص موقفه الأحادي والسلبي، وربما العدائي، من العولمة، كما فعل الكثيرون من المثقفين الغربيين والعرب. مع أن العولمة كظاهرة هي سيف ذو حدين: قد تستخدم بصورة سلبية، عقيمة، أو سيئة. ولكن قد تستثمر على النحو الإيجابي والبناء، كما استثمرت من جانب الأجيال الجديدة في العالم العربي.

وكانت خلاصة رأيي أن بورديو، بالرغم مما أنجزه في تحليلاته لبنى المجتمع وروابطه وآليات اشتغاله، فإنه أخفق في تصوره لوسائل تغييره. ذلك أن مفاهيمه للمساواة والعدالة والحرية والدولة، هي مثالية، طوباوية، لا يمكن ترجمتها في أي مجتمع كان. وها هي فرنسا تغرق في أزماتها الاقتصادية والمعيشية، بعد عقود مما أنتج من معارف حول المجتمع الفرنسي. الأمر الذي حمل أحد علماء الاجتماع الجدد على تأليف كتاب يتساءل فيه عن جدوى علم الاجتماع، إذ هو يرى بأن ما يتحدث عنه علماء الاجتماع هو مجتمع مجرد لا علاقة له بالواقع الاجتماعي الحي والملموس والمتحول.

مما يعني أن عملية تغيير المجتمع ليست بيد المفكرين من الفلاسفة وعلماء الاجتماع. إنها شأن يخص المجتمع بكل حقوله وقطاعاته وفئاته، بحيث يساهم كل واحد أو كل فريق بأعمال التشخيص والعلاج، من أجل التغيير المأمول، بأدوات اختصاصه وخبراته.

* نهاية المثقف

يسألني البعض عن الاختلاف بيني وبين إدوار سعيد، بخصوص ما كتبه كل منا عن المثقف ودوره وصوره.

الفارق كبير بيني وبينه في المقاربة للمسألة. فسعيد كتب عن المثقف لا بعقل نقدي، بل بعقلية تقليدية هي العقلية النخبوية التي تسوغ للمثقف الحداثي أن يدّعي احتكار الحقيقة، والتي بموجبها يتصرف كوصي على القيَم والحريات، أي كصاحب دور نبوي رسولي. ولذا أكّد سعيد أن مهمة المثقف أن يصارح الحكام بقول الحقيقة نيابةً عن الجمهور الذي يعجز عن ذلك. والوجه الآخر لاحتكار الحقيقة من جانب النخب هو احتقار لعموم الناس.

أما مقاربتي فإنها قامت على إخضاع المثقف للنقد، تشريحاً وتفكيكاً لمفاهيمه وأدواره. وذلك بتبيان أن العقلية النبوية، النخبوية، النرجسية، هي التي أوصلت المثقف الى أزمته: فقدان المصداقية والفاعلية، من حيث فهم العالم أو من حيث التأثير في المجريات، فضلاً عن العزلة عن الناس الذين يدّعي المثقف الدفاع عن مصالحهم. وهذا ما أكدته الثورات العربية التي فجرها ناشطون لم يأتوا من أفكار المثقفين، ولا يشبهون نماذجهم أو صوَرهم.

ربما كان هذا الدور فاعلاً في مراحل سابقة. ولكنه قد استهلك وفقد فاعليته، على وقع الثورات والانعطافات والتحولات التي غيّرت مشهد العالم في العقود الأخيرة.

نحن ننتقل الآن من مجتمع النخبة والجمهور الى المجتمع التداولي الذي هو جملة حقوله وقطاعاته المنتجة والفاعلة، كما ننتقل من المجتمع العامودي، المركزي، الى مجتمع الشبكة والمعرفة، حيث لا أحد يحتكر الحقيقة.

المثقف مهمته هي استخدام أدوات اختصاصه وتوظيف خبراته في التحليل والتشخيص للأوضاع، عبر نقد المفاهيم والتصورات أو السياسات والاستراتيجيات. وذلك لفتح إمكانات جديدة تتيح تركيب حلول للمشكلات أو اجتراح وسائل ناجعة لتحسين مستوى الحياة، بالطبع بالاشتراك مع الفاعلين في بقية الحقول والقطاعات.

للمثقف، كشاهد على عصره أو كمنخرط في واقعه، أن ينتقد ويعارض ويتخذ مواقف سياسية من هذه القضية أو تلك أو من هذا النظام أو ذاك، فيشارك مثلاً، في التظاهرات والاحتجاجات وسواها من أشكال التعبير، في الفضاء العمومي، ولكن مهمته الأولى هي معرفية: خلق الوقائع في مجال عمله. كان الرئيس الفرنسي هولاند قد طرح، أثناء حملته الانتخابية، شعار الرئيس "العادي". ومنذ ذلك الوقت يدور نقاش في فرنسا بين المثقفين، حول دلالة هذا المفهوم وأبعاده، يساهم فيه فلاسفة وعلماء اجتماع وأساتذة في الفكر السياسي.

وآخر ما قرأت في هذا الخصوص (مجلة لونوفيل أوبسرفاتور) مقالة يتناول فيها خمسة اختصاصيين رؤية الرئيس الفرنسي وقناعاته وسياسته وأسلوبه، من منظور فلسفي. فالأول دخل عليه من أرسطو، والثاني من ديكارت، والثالث من جون لوك، والرابع من ماكس فيبر، والأخير من إميل دركايم.

بالطبع هناك مثقفون أو كتاب ينتقدون الرئيس الفرنسي من موقع سياسي، كما هو شأن الكتل والأحزاب السياسية في معسكر المعارضة. ولكن المثقف، أياً كان اتجاهه السياسي، هو الذي يشتغل بصناعة الأفكار وإعادة بناء المفاهيم، في تعاطيه مع الذوات والأفعال.

خلاصة القول إن معالجة سعيد تنتمي الى حقبة وصلت الى نهايتها وباتت من زمن مضى. وما حاولته في نقدي، هو أن أفتح ملف المثقف لأشخّص المشكلة وأفكك الأزمة التي يحتاج الخروج منها الى ابتكار صوَر ومفاهيم وأدوار جديدة يستعيد من خلالها المثقفون الفاعلية والمشروعية.

 

Email