مصر المنقسمة

ت + ت - الحجم الطبيعي

أخطر ما نجم عن ثورة الخامس والعشرين من يناير، هو ذلك الانقسام الحاد في الأمة المصرية بين تيارين؛ أحدهما يتخذ من التوجهات الدينية مظهراً له، بينما يتخذ الآخر من الأفكار المدنية شعاراً له.

نحن أمام قطاع من المصريين يرى في الدين أساساً لمجتمع ما بعد الثورة، ويتخذ في سبيل ذلك كافة المظاهر المرتبطة به؛ من لحى وجلاليب ونقاب وفصل بين النساء والرجال، ناهيك عن اتهامات يطلقها شمالاً ويميناً بفساد المجتمع وانحراف سلوكياته وأهمية عودته إلى الدين الصحيح. ويقف هؤلاء جاهزون براياتهم ومشاريعهم المختلفة، من أجل تنفيذ ذلك وفرضه بطريقة أو بأخرى على عموم المصريين، رغم ما يدعونه من سلم واقتداء بالرسول الكريم.

المشكلة هنا أننا لم نعد نرى الممارسات الدينية الهادئة التي نشأنا عليها، بقدر ما أصبحنا نرى صخباً دينياً أقرب للسياسة منه إلى هدوء الدين وسلامه وانسجامه في علاقاته مع البشر. نحن أمام فريق يرى نفسه فوق الجميع، ويرى غايته أو شهادته أو منتهى أحلامه، في فرض مشروعه الخاص الذي يتوهم أنه مشروع الله، وأنه بالتبعية وكيل الله في تنفيذه وتحقيقه على الأرض.

ورغم تنوع تيارات هذا الاتجاه، فإن الغالب عليه هو الرغبة في فرض الرؤى رغم الادعاء بغير ذلك. ورغم الحوارات التي يدعي أصحاب هذا التيار الدخول فيها مع التيارات المدنية الأخرى، فإنها حوارات هدفها فرض الأجندة الدينية رغم أنف الآخرين.

فالعيب الأساسي لأصحاب هذه التيارات، هو أنهم لم يتربوا سياسياً بقدر ما تصلبوا دينياً وأيديولوجياً؛ فهم أقرب للجماعات المنغلقة التي تفرض على نفسها سياجاً من القيم الصارمة، التي لا تلين ولا تقبل المهادنة في مواجهة الآخرين، ولعل ذلك يظهر في الكثير من المناسبات التي تجعل الرغبة في الموت هي أعظم الأماني في سبيل إعلاء راية الدين.

ورغم سمو هذه الفكرة، إلا أن الداعين لها يفرغونها من مضمونها الحقيقي الأقرب لإقامة مجتمعات إنسانية تقوم على العدل الاجتماعي وكرامة حقوق الإنسان وصيانتها، وهي مسألة ما زالت هذه الجماعات أبعد ما تكون عنها وعن تدبرها.

على الجانب الآخر، يبدو أصحاب الدعوات المدنية طرفاً آخر يبرز انقسام مصر، وحالة الصراع الدائر فيها الآن. فنحن أمام تيارات عدة يسارية وليبرالية وعلمانية ليس لها من هم الآن، خصوصاً بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، سوى مزاحمة التيارات الدينية والنيل منها ومهاجمتها ليل نهار.

ورغم ثراء تلك الاتجاهات على المستوى الفكري، إلا أن مساراتها بعد الثورة تثبت بما لا يدع مجالاً للشك، أنها حولت مجالات الصراع من أجل الوطن إلى صراعات أخرى حزبية وسياسية وأيديولوجية ضيقة، من أجل مناوأة الجماعات الدينية ومزاحمتها.

ورغم مشروعية ذلك سياسياً، فإن الواقع المصري الآن يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن أزمة الانقسام الحادة في مصر، كانت تحتاج من جانب هذا الفريق نوعاً من المهادنة، وتوسعاً في المدارك من أجل الصالح العام للوطن، خصوصاً إذا وضعنا في الاعتبار المكاسب الكبيرة التي حققتها هذه التيارات شعبياً، وكشفت عنها نتائج الانتخابات الرئاسية على وجه الخصوص.

وإذا كان أصحاب التيار الديني يحاولون فرض توجهاتهم الدينية الأصولية، على عموم الشعب، فإن أصحاب التيارات المدنية يحاولون أن يتوسعوا في الحقوق والأفكار اليسارية والليبرالية، بما يفرض أطراً جديدة ربما صادمة وعنيفة على مجموع الشعب الأمي، الذي ما زال في طور الوعي والتشكل السياسي.

ويهدر الإسلاميون بهذه التوجهات وسطية المصريين الرائعة في التعامل مع ما هو ديني، بينما يهدر المدنيون بهذه التوجهات إمكانية تطوير الوعي المصري وتوسيع قاعدة شعبية مستنيرة وواعية. وما بين هذين التيارين تراوح مصر نفسها في انقسام حاد، يزداد يوماً بعد يوم إلى الحد الذي يمكن معه القول إننا أمام مصرين وليس مصرا واحدة.

وتشكل تلك الحالة مستوى هائلاً من الخطورة ربما لم تواجهه مصر في أحلك ظروفها التاريخية، وهي حالة سوف تفضي، إن عاجلاً أو آجلاً، إلى مستويات صراع جديدة، سواء على المستوى المؤسسي أو الإعلامي، وربما حتى على مستوى المواجهات المسلحة الفعلية.

واللافت للنظر هنا، أن حالة الانقسام هذه كانت تتخذ في السابق أوجهاً نخبوية بامتياز؛ فالمسافة بين المفكرين الدينيين والمدنيين لم يتم تجسيرها في يوم من الأيام في مصر. ولعل المعارك الفكرية في بدايات القرن العشرين، تكشف عن حجم الصراع بين أصحاب هذين التوجهين.

وتكمن الخطورة الآنية في أن تلك النخبوية الصراعية تنتقل الآن إلى المواطنين العاديين، بما يستتبع ذلك من صراعات ومواجهات مباشرة، وبما سوف ينجم عن ذلك من استعداء بينهما. على عقلاء الأمة الآن أن يعوا ذلك الانقسام الحاد، ويعيدوا لمصر روحها الواحدة القادرة على لم شمل الجميع، رغم ما يعتورهم من خلافات ورؤى متعارضة!

Email