اللغـز الصـيني

ت + ت - الحجم الطبيعي

دائماً ما نشاهد الوجود الصيني القوي في مجلس الأمن، فكلما جاء مشروع قرار أمام المجلس من قبل الولايات المتحدة والدول الغربية فإن الأعين تتجه نحو الصين ومعها روسيا - بكل تأكيد - لمعرفة الموقف الذي ستتخذه هاتان الدولتان. وبالطبع فأنت لست بحاجة إلى دولتين كي تعيق تمرير مشروع قرار معين في المجلس.

فدولة واحدة من أصحاب الفيتو تستطيع أن تنهي الموضوع. نقول هذا الكلام لأن منطقتنا العربية تعيش أسوأ كارثة سياسية إنسانية في الوقت الحالي مع الدمار والخراب والقتل والتنكيل والتشريد للشعب السوري من جراء الوضع الأمني الخطير في ذلك البلد. الصين لم تتوانى عن استخدام الفيتو ضد المساعي الغربية في مجلس الأمن لوضع حد لنزيف الدم السوري بالقوة. الأمر الذي أثار استغراب الكثيرين، حيث أن الصين لا تتمتع بعلاقات إستراتيجية مع النظام السوري .

وليس لها وجود ومصلحة اقتصادية وتجارية قوية مع سوريا كي تجعلها تكشر عن أنيابها وتستخدم حق الفيتو دفاعاً عن النظام السوري، فلماذا تزج بكين نفسها في دائرة الصراع الدائر وتصبح بالتالي واحدة من قوى الاستقطاب الدولي في موضوع يعتبره البعض لا يعنيها بشكل مباشر؟

إن المتابع للشأن الصيني يستطيع أن يربط الموقف الصيني من الأزمة السورية بمجموعة من الاعتبارات المحركة له. أول هذه الاعتبارات هي أن النظام الصيني الحاكم لديه قناعة ثابتة بعدم تأييد ثورات الشعوب ضد أنظمتها السياسية، رغم أن الصين ذاتها قامت من خلال تمرد الفلاحين ضد نظام الحزب الوطني الحاكم في نهاية الأربعينات من القرن المنصرم.

فالصين ذاتها تعيش حالة من الخوف الداخلي من بعض المناطق الجغرافية التي تحاول التمرد عن النظام السياسي في بكين، كمنطقة التبت المحاذية مع الهند.

حيث الوجود البوذي القوي المعارض لسيطرة الحزب الشيوعي على تلك المنطقة والمطالب بالاستقلال عن الصين والمدعوم من قوة أجنبية كالهند والدول الغربية؛ وهناك منطقة غرب الصين التي تعيش فيها أقلية الأيوجور المسلمة.

والتي تطالب بالانفصال عن الصين منذ فترة من الزمن والتي لها صلات مع الحركات الإسلامية المسلحة كالقاعدة وطالبان. وبالتالي فإن التخوف الصيني نابع من أن سهولة سقوط النظام السياسي السوري أو غيره قد يشجع إمكانية صحوة الشعب الصيني في مثل تلك المناطق إذا ما رأى بأن الشعوب يمكن أن تنجح في الإطاحة بأنظمتها السياسية بسهولة من خلال الثورة أو التمرد عليها.

الاعتبار الثاني المُفسر للموقف الصيني الداعم للنظام السياسي السوري ضـد المساعـي الدولية لوضع حد للأزمة السورية هو التخوف الصيني من أن التدخل الدولي لإيجاد حل عسكري لتلك الأزمة قد يصبح عرفاً دولياً للمنظمة الدولية والدول الرئيسة في العالم للتعامل بذات الطريقة مع مواقف كهذه في دول أخرى قد يحدث فيها مثل هذه الثورات. فالصين التي تعاني هي ذاتها من مخاوف لبروز ثورات شعبية - كما حدث في الميدان السماوي في ربيع 1989 .

وكما يحدث من تمرد هنا وهناك بين فترة وأخرى في مختلف بقاع الصين الشاسعة - تجعل نصب عينها أن لا تكون هناك حجة دولية تفتح الباب أمام القوى الكبرى المنافسة أو المعادية لها لاستثمار مثل تلك الظروف للتدخل في الشأن الصيني، فهي بالتالي لا تود أن يكون مثل هذا الأمر عرفاً دولياً يمكن للدول الكبرى استغلاله ضد الصين في يوم من الأيام.

والاعتبار الثالث للموقف الصيني هو رغبتها في تحقيق التوازن في النظام الدولي وإبعاد النظام الدولي عن هيمنة وسيطرة الولايات المتحدة. الصين تؤمن بأن النظام الحالي هو نظام متعدد الأقطاب بمعـنى أن هـناك عدة دول تلعب دورا رئيسا في التأثير على تسيير أمور وشؤون النظام الدولي وليس الأمر مرتبطا فقط بالولايات المتحدة.

وبذلك فهي تريد تأكيد هذه الوضعية من خلال وضع عراقيل أمـام الانفـراد والسيطرة الأميركية على النظام الدولي من خلال تنفيذها لأجندتها في سوريا. فسوريا من هذا المنطلق هي أداة في يد الصين ومعها روسيا في هذا الإطار وبعض الدول الأخرى لإعلان أن النظـام الدولـي ما عاد نظاماً تهيمن عليه دولة واحدة بل هو نظام لدول أخرى كالصين وروسيا دور في قيادته.

 فالصين تستثمر جهودها في كل الفرص المتاحة أمامها لزج نفسها في القضايا العالمية وإن كانت لا علاقة مباشرة لها بها وذلك من أجل أن تبرز حضورها وتبرز نفسها كلاعب دولي لا يمكن الاستغناء عنه وبالتالي تبعد فكرة أحادية النظام الدولي وتخلق لنفسها أوراق تفاوضية مهمة مع مختلف الأطراف في العالم.

وعليه فإن استخدام الصين للفيتو في مواجهة مشاريع القرارات الساعية لإيجاد حلول صارمة للأزمة في سوريا لم يأت اعتباطاً أو مـن دون قاعـدة صينـية تمثلها السياسة الخارجية الصينية في الوقـت الراهن. بل جاء ليمثل المصلحة الصينية ويعبر عنها بشكل قوي وواضح.

 

Email