الإساءة والكرامة

ت + ت - الحجم الطبيعي

أتى البابا بندكتوس السادس عشر إلى لبنان، فيما الأوضاع تنفجر غضباً وعنفاً، في غير بلد عربي وإسلامي، احتجاجاً على فيلم عُدّ مسيئاً للنبيّ العربي هو فيلم "براءة المسلمين"، الذي أنتجه وعرضه على الشبكة العنقودية قبطي مصري يعيش في الولايات المتحدة. وفي قراءتي للحدث أن الذي بثّ الفيلم في هذا الوقت، قد أراد أن يصيب أكثر من عصفور بحجر واحد.

الهدف الأول، هو التشويش على زيارة بابا روما، الذي أتى حاملاً معه شعار السلام والاعتراف المتبادل والعيش المشترك لمسيحيي الشرق ومسلميه. وما حدث من احتجاجات عنيفة وتصرّفات همجية بالاعتداء على سفارات الدول الغربية، قد سمّم أجواء الزيارة قبل أن تبدأ، بقدر ما أكّد على أن لغة العنف هي السائدة في العالم العربي.

الهدف الثاني، سياسي يخصّ الولايات المتحدة الأميركية التي صُنع فيها الفيلم والتي حصدت النتيجة؛ من قتل سفيرها ومساعديه في ليبيا، إلى الاعتداء على سفاراتها وقنصلياتها في غير مدينة إسلامية. والأرجح أن المستفيد في معركة السباق إلى البيت الأبيض، ليس باراك أوباما الذي يترشّح لولاية رئاسية ثانية، بل خصمه الجمهوري المحافظ، ميت رومني. ولا عجب، فالمتشدّدون في كلا المعسكرين الأميركي والإسلامي، هم المستفيدون من موجبات التعصّب والكره والعنف.

الهدف الثالث، إحداث البلبلة والاضطراب في البلدان العربية التي صنعت ثورات لتسقط أنظمة الاستبداد، وذلك بتشويه صورتها، وإظهار عجزها عن إقامة أنظمة ديمقراطية وبناء مجتمعات مدنية. ومجتمعاتنا أرض خصبة للاستجابة لما يُراد بها من سوء، ودوماً بحسب قانون بافلوف: تُستدرج سريعاً وبغباء لما يُخطَّط لها، لا تفعل بصورة إيجابية وبنّاءة، بل تنفعل على نحوٍ يرتدّ عليها بالخسران المعنوي والمادي.

بالطبع، سارع الكثيرون من رؤساء الدول ورجال الدين، الذين دانوا الفيلم، إلى إدانة الاعتداء على الأشخاص والسفارات والممتلكات، من جانب الجماهير الغاضبة التي تتحول في مثل هذه الحالات إلى قطعان هائجة بتصرّفاتها العمياء، الأمر الذي حوّل الاحتجاج ضد الإساءة للإسلام، إلى إساءة مضاعفة تشوّه صورة المسلمين في العالم. ولعلّ هذا هو الهدف الرابع من وراء بثّ الفيلم؛ أن يقدم المسلمون أنفسهم إلى العالم على أنهم ليسوا أهل حوار وتعقّل وتسامح، كما يدعون..

أستدرك هنا لأقول بأن الكنيسة الغربية، إذ تخلّت عن العنف، وباتت تتحدث بلغة سلمية تداولية، فليس لطبع ديمقراطي فيها، بل لأن شوكتها قد انكسرت بفعل الثورات السياسية والفكرية، ولأنه قد تمّ ترويضها وتدجينها بمرورها في مصفاة الحداثة والعلمنة والعقلنة. ولهذا فإن التعرّض للرموز الدينية في الغرب لا يثير أزمة، أو على الأقل لا يستثير ردات فعل عنيفة.. وهذا فارق كبير بين العالَمَين.

أعود إلى زيارة البابا، لأتوقف عند مقاربته للمشكلة المزمنة في هذه المنطقة المصابة بداء الحروب الطائفية والفتن المذهبية. وكان من الطبيعي أن يدعو الكرسي الرسولي إلى نبذ التطرّف والفتنة والعنف، وأن يشدّد على مبادئ الحوار والتعددية والمصالحة والشراكة، معتبراً أن قدر هذه المنطقة، أو أن من حسن حظّها، أن الله قدّر لها أن تبني نموذجاً للتعايش، ومثالاً للتبادل الغني والمثمر بين الثقافات والديانات المختلفة والمتعددة.

وإذا كانت زيارة البابا تشكل قوة دفع رسولية للمسيحيين الخائفين على المصائر والمصالح، فإن الكلام على نماذج التعايش يستدعي المناقشة، ذلك أن هذه النماذج قد جُرِّبت لتستهلك او تفشل وتصل إلى نهاياتها البائسة، كما تشهد التجربة اللبنانية. فالحرب الأهلية في مرحلتها الأولى عامي 75-76، نسفت التعايش بين المسلمين والمسيحيين. والآن فإن النزاعات والتوتّرات بين السنّة والشيعة، تكاد تطيح بنموذج التعايش والشراكة بين المسلمين أنفسهم.

ولهذا لا أخشى القول بأن نماذج التعايش بين الطوائف والمذاهب، هي صيغة تحرّرت منها أوروبا ببناء دول المواطنة الجامعة والهوية العابرة للأطر التقليدية. فلماذا نتمسك بها نحن؟ هل لنعيد إنتاج الأزمات بشكلها الأسوأ؟

طبعاً، أنا لا أدعو الآن للتخلي عن هذه الصيغة، لأن ذلك سيكون له مفاعيله الكارثية على المسيحيين في ظلّ صعود الأصوليات الإسلامية. لتكن صيغة مؤقتة، في هذه المرحلة الانتقالية، حيث ينتظر من المسيحيين أن يلعبوا دور الوسيط الفعال والبناء في الصراعات الدائرة في مجتمعاتهم، في انتظار التحوّل الكبير نحو مجتمع المواطنة، حيث لا تعود ثمة حاجة لأن يعرّف الواحد نفسه على أساس ديني أو عرقي.

أختم بالرجوع إلى ما بدأت به.. فيلم "براءة المسلمين" الذي أشعل العالم الإسلامي غضباً وعنفاً، لكي ينتشر على نطاق واسع، ويصنع لصاحبه شهرة فوجئ بها. ولا شك أن هذا الحدث سوف يُستغلّ من قبل التيارات الأصولية المتطرفة، والأحزاب السياسية التي تنتعش بفبركة الصراعات وشنّ الحروب. ولهذا فقد وجدت فيه فرصة ثمينة لشنّ حملات "جهادية" ضد ما اعتبرته إساءة للرموز والدين والنبيّ والأمة. وفي أيّ حال، فإنهم يريدون إقامة محاكم تفتيش تخلّت عنها اوروبا منذ زمن، ولم تعرفها الحضارة الإسلامية في أزمنة صعودها وازدهارها.

بهذا فهم يصرفون اهتمام العرب عن المشكلات الفعلية التي تواجههم في الداخل، بقدر ما يحجبون الأنظار عن أنظمة الاستبداد التي تواجه مطالب الحرية والعدالة والكرامة، بكل هذه الوحشية التي لا سابق لها.

فعن أي كرامة إذن نتحدث، فيما نحن ندعم أنظمة تجاوز أصحابها الأنبياء والرسل بتألههم ووحدانيتهم! ثم إذا شئنا الانطلاق من تساوي الناس في الكرامة الإنسانية التي تعني أن كل فرد إنما يحترم لشخصه، بصرف النظر عن مرتبته أو مهنته، فما معنى ذلك وما أهميته بالنسبة لشخص يشعر بأنه يعيش في دُوَل تتعامل مع الناس كتَبَع أو خدم أو أرقام في قطعان، وعلى نحوٍ ينسف معاني الاستقلالية، والسيادة، والحرية، والعدالة.. أي المعنى الأصلي لوجود الإنسان وكينونته؟!

 

Email