كاشفات الإعلام المصري الراهن

ت + ت - الحجم الطبيعي

كشفت الأزمة التي حدثت بين رجل الدين والفنانة الشهيرة، وما شهده المصريون واستمعوا إليه عبر شاشات القنوات الفضائية المختلفة، عن العديد من الأمور الكاشفة التي يجب التوقف عندها في إطار ما يحدث في أعقاب الثورة المجيدة.

وهي أمور رغم ارتباطها بالأوضاع المصرية الآنية، إلا أنها يمكن سحبها على مجمل الإعلام في العالم العربي ككل، وإن بنسب متفاوتة تفاوت البلدان والطبائع الاجتماعية للسكان.

أولاً: أننا نمر بحالة إعلامية غير منضبطة بدرجة كبيرة، ربما لم تمر بها مصر من قبل. فالإعلام المصري الآن يعاني من سيولة هائلة أوصلته إلى تناول أي موضوع، بغض النظر عن أهميته وخطورته ومدى صحته.

بل إن الأمر قد وصل بهذا الإعلام إلى عدم مراعاة ما يصل لأفراد الأسرة، من لغة متدنية وقضايا ساذجة ومشاجرات وانفعالات يومية، تنعكس بدرجة أو بأخرى على الأطفال والكبار على السواء، وتخلق واقعاً أسرياً مفككاً وعنيفاً.

وإذا كان إعلام ما قبل الثورة قد دار حول ما سمحت به قوى النظام السابق، مما ضمن له قدراً من الاتساق يمكن أن نطلق عليه اتساق الخضوع والمناورة، فإن الإعلام الراهن لم يجد أمامه أية ضوابط سياسية أو أيديولوجية أو حتى أخلاقية، وهو أمر يجعله إعلام أهواء وتخبط ومصالح خاصة وضيقة.

ثانياً: أن الإعلام المصري لم يرق لمستوى الثورة المصرية والنتائج الهائلة الناجمة عنها محلياً وإقليمياً وعالمياً، فما زال هذا الإعلام يدور حول القضايا المثيرة لعواطف الجماهير، دون أن يؤسس لنفسه مساراً جديداً، ودون أن ينتقل من برامج «التوك شو» السخيفة، إلى برامج حقيقية تتماس مع قضايا الشارع الفعلية وتتفاعل معها.

ويبدو أن ما يرتبط بالجماهير يمثل عبئاً كبيراً على الإعلاميين الذين يفضلون استضافة النجوم والنخب السياسية المختلفة والحديث معهم، وربما الترويج لهم.

هناك قطيعة أوجدها النظام السابق بين الإعلام والجماهير البسيطة والقضايا المتعلقة بهم، وهي مسألة تحتاج إلى جيل جديد من الإعلاميين الذين خرجوا فعلياً من رحم الثورة المصرية، ولم يستثمروها إعلامياً في صورة مكاسب يحققونها هنا وهناك، مثلما تطالعنا صورهم عبر شاشات القنوات الفضائية المختلفة.

ثالثاً: أن هذا الإعلام ما زالت تحركه ضوابط النظام السابق، سواء أكان حكومياً أو خاصاً؛ فهو إعلام، رغم حجم الحريات المتوافر له، يقيد نفسه بنفسه، ويفرض رقابة ذاتية غير شعورية على برامجه والقضايا المختلفة التي يتناولها. يظهر ذلك بشكل واضح من التغيرات التي يجريها على نفسه يومياً، وفقاً لتحولات القوى السياسية الجديدة على الساحة المصرية.

ففي خضم الثورة والأحداث التي مرت بها، كانت شاشات القنوات الفضائية تعج بالليبراليين واليساريين، وبعد وصول الإخوان للحكم، أصبحنا لا نرى إلا رجال الدين واللحى، والقضايا التي تهم الإخوان أكثر من أي فصيل سياسي آخر.

فهو إعلام لم يتحرر من النفاق والانتهازية والبحث عن القوى السياسية المهيمنة، التي يضمن لنفسه أماناً إعلامياً في كنفها، وضماناً لاستمراره واستمرار قنواته، ومن ثم استمرار المكاسب الهائلة المرتبطة بها.

رابعاً: أن هذا الإعلام هو إعلام شخصيات ومشاهير ونخب، أكثر منه إعلام قضايا وفئات وشرائح اجتماعية مختلفة. وحتى الإعلام الذي يعبر عن هموم فئات اجتماعية أوسع، فإنه يكون إعلاماً متحزباً ضيقاً مفتقراً للرؤية المجتمعية الأعم والأشمل. وتمكن الإشارة هنا إلى القنوات الدينية التي تقدم لنا ضرباً من التعنت والتحيز، وربما إثارة الفتن والصراعات المجتمعية أكثر من أي شيء آخر.

وإذا كان هذا النوع من الإعلام يقدم المشاهير والنخب، فإنه أيضاً ما زال يدور في فلك مقدمي البرامج المشاهير رجالاً ونساء، بغض النظر عن إمكانياتهم الإعلامية وقدراتهم الفكرية ووعيهم مجتمعياً وسياسياً. فما زلنا نرى الوجوه نفسها، وهو أمر يجعلنا لا نرى جديداً، سواء على مستوى الشكل أو المضمون.

ومن اللافت للنظر هنا أن هذه القنوات الفضائية المختلفة، استثمرت بعض الوجوه التي ارتبطت بالثورة، وحولتها لمقدمي برامج، وهي ظاهرة تستدعي الانتباه والدراسة، حيث شملت بعض أساتذة الجامعات ومؤسسي الأحزاب والنشطاء السياسيين، بل ووصلت إلى أئمة المساجد ورجال الدين. وعلى ما يبدو فإن الأمر قد أصبح استفادة مادية بحتة من الكعكة الثورية، وتحقيق مصالح شخصية أكثر من أي شيء آخر.

وأخيراً، وارتباطاً بما سبق، فإنه إعلام تجاري يتحكم في عقليته الربح والمكسب في الأساس، إعلام رجال أعمال، لا يحركهم سوى مصالحهم ورغباتهم وارتباطاتهم بالقوى السياسية المتنفذة. ولعل هذا يكشف عن تلك الجرأة الهائلة والأخلاق الساقطة، التي استطاع بها هذا الإعلام أن يتاجر بالثورة والثوار والشهداء وأحلام المصريين، ويحول كل ذلك لمجرد صفقة تجارية لمن يدفع أكثر!

Email