أحد عشر عاماً تمر هذه الأيام على ذكرى أليمة ولا شك، مهما كانت ملابساتها التي ستنجلي حقيقتها يوما ما، أليمة للأرواح البريئة التي راحت ضحيتها، وللاستحقاقات السلبية التي تكبدها العالم من جرائها ولا يزال. وقد جرى العرف أن تضحى هذه الذكرى بمثابة "بكائية عصرية"، غير أن قراءة عميقة لمفكر ولاهوتي ألماني معاصر، تذهب إلى أن هذا الحدث على هوله وبشاعته، ربما كان فرصة لا تعوض للوصل لا للفصل بين أميركا والعالم.
صاحب هذه الرؤية هو الباحث الألماني واللاهوتي والكاتب المستقل "جيكو موللر فاهرنهولتز"، والذي يضمنها كتابه القيم "معركة أميركا من أجل الله"، وفيه نظرة مراقب خارجي يرى الولايات المتحدة بعين الحب، وهذا ما يجعله مؤهلا على نحو فريد لتقديم صورة تمثل رأي شعوب العالم في أميركا، وكيف يمكن للعامل الديني الراهن في السياسة الأميركية، أن يبدو كغلالة تخفي وراء قشرة من التقوى، جوهر المشاعر الأنانية الوطنية.
ما هي ملامح الفرصة الضائعة؟
بعد ستة أيام فقط من اعتداءات واشنطن ونيويورك، كانت الأوامر الرئاسية تصدر من بوش بالاستعداد للهجوم على أفغانستان وبإعداد خطة غزو العراق، وهو أمر تقليدي وكان متوقعا.
أما غير المتوقع فهو السيناريو الذي تخيله اللاهوتي الألماني، وقد اعتبر أنه كان من الممكن أن يمثل لحظة واعدة، مثل تلك اللحظة التي يشير إليها المسيحيون بوصفها لحظة تحد وتحول.
كان في مقدور الرئيس بوش، الذي لا يتردد في الاعتراف علنا بأنه مسيحي ملتزم، أن يقود أمته بطريقة تعبر عن قابلية الدين للمصالحة والتسوية، وإعادة بناء السياسة العالمية.
وتحت التأثير المباشر والفوري للحادي عشر من سبتمبر، تخيل موللر أن بوش وجه خطابا للأمة الأميركية يتناول مراجعة للذات، وإعادة قراءة حقيقية لأخطائها وخطاياها التي ارتكبتها طوال العقود الستة المنصرمة، أي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
في الخطاب المتخيل، يصارح بوش الشعب الأميركي بأن: "لدينا مواطن ضعف تعرضنا للخطر، وهذه اللحظة الأليمة، هي أيضا لحظة حقيقة انكشاف تلك المواطن التي نشترك فيها مع الآخرين"..
ما الذي كان ولا بد أن تفتح هجمات 11 سبتمبر عيون الأميركيين عليه؟
ربما تحتم على بوش القول: "الآن يمكننا أن نتعاطف مع الشعوب الأخرى التي عاشت ويلات الحروب الأهلية طوال سنين، وحتى عقود. يمكننا الآن أن نفهم شعور الذين قصفت مدنهم وتحولت إلى أكوام من الرماد، وبعض القنابل المستخدمة نحن صنعناها وزودنا بها المعتدين، نشعر بذلك كله الآن بطريقة مكثفة وخاصة".
ما الذي يستتبع هذا النوع من المعرفة؟
الخطاب اليوتوبي اللاهوتي، افترض إقرارا رئاسيا بأن أميركا ستتعلم من هذا الدرس المرير، وبأنه لا توجد مكانة خاصة لها عالميا، وأنها مثل غيرها من الشعوب الأخرى، ضيوف على هذا الكوكب، بشر فانون، يتصلون ببقية خلق الله، ويعتمد بعضهم على بعض.
في أعقاب 11 سبتمبر تردد على الألسنة الأميركية سؤال: لماذا يكرهوننا؟
لم يفت "جيكو موللر" في الحقيقة أن يجد جوابا، إذ دعا بوش إلى الإقرار بأن الكراهية التي كشفت عن نفسها في هذه الهجمات، كانت حقا مذهلة، لكننا "بحاجة إلى معاينة الأسباب التي مكنت تلك الكراهية من النمو والتفاقم، نحن بحاجة إلى العثور على إمكانيات إصلاح الظروف التي أسهمت في تخطيط وتنفيذ هذه الجرائم البشعة".
على أن أعظم الكلمات سموا في "خطاب الفرصة الضائعة"، إن قدر لنا تسميته كذلك، هو الاعتراف الأميركي الضمني بأن "مواطن ضعفنا التي عرضتنا للخطر، هي أيضا تعبير عن فشلنا في لقاء الشعوب في أصقاع العالم الأخرى، بوصفنا وسطاء نزيهين نلبي احتياجاتها. علينا قبول مسؤوليتنا عن الظلم الذي يسبب هذا القدر من المعاناة والتبريح. الشر لا يكمن هناك فقط، بل موجود معنا وفينا أيضا". لزمان طويل تشبثت أميركا في واقع الحال بإحساس البراءة الوطنية، غير أن هذا الشعور قد دفن ولا شك تحت أنقاض البرجين التوأمين في نيويورك.
يتساءل المراقب للشأن الأميركي: ماذا لو وجد مثل هذا الخطاب طريقه للأميركيين؟ كم كان يوفر من نزيف الدم والمال، ومن التدهور الاقتصادي الذي هو نذير لانفراط عقد الإمبراطورية الأميركية!
هل كانت تلك اللحظة على مراراتها، فرصة ضائعة لمراجعة تقود لفترة من الهدوء من مثل تلك التي عرفتها أوروبا بالزمن الجميل الخالي من الحروب (La belle époque) في نهايات القرن التاسع عشر، حال تخلت واشنطن عن تطلعاتها الإمبراطورية وفكرة صبغ القرن الحادي والعشرين بصبغة أميركية بامتياز؟
الواقع الأكثر إيلاما، يوقظنا من أحلام اللاهوتيين وتنظيرات اليوتوبيين على حروب أوباما السرية، التي هي امتداد لحروب بوش الاستباقية. ولهذا يبقى الخوف جاثما والقلق محلقا على عقول وقلوب الأميركيين، سيما وأن العالم يزداد اختصاما لأميركا الإدارات والسياسات، وليس بالضرورة الشعب الطيب في غالبه.
أحد عشر عاما، وسيناريوهات واشنطن الظلامية ماضية قدما، وما يجري على صعيد الشرق الأوسط خير شاهد على ذلك، وهذا مدعاة للتساؤل: هل صدق جور فيدال المفكر والكاتب الأميركي الراحل عن عالمنا قريبا، عندما وصف أميركا بأنها الدولة المصابة بالنسيان والتي لا تتعلم من دروس التاريخ؟!