مسلسل الإرهاب ونجوم الخطف

ت + ت - الحجم الطبيعي

كان لبنان في الآونة الاخيرة مسرحاً لأحداث خطيرة متلاحقة، يراد منها زعزعة استقراره، وتهديد سلامه الأهلي الذي هو أصلاً هش، مع وجود دولة ضعيفة يستقوي عليها الجميع، من المعارضين والموالين للحكومة، ما يعني أن الأوضاع بلغت منتهاها من التآكل والاهتراء، ولم تعد تنفع معها المعالجات العادية والقاصرة.

وكانت قضية ميشال سماحة، أكثر اللبنانيين تعصّباً للمحور السوري ـ الإيراني والتحاقاً به، حدثاً هزّ لبنان وترك أصداءه في البلاد العربية والعالم أجمع. فالوزير والنائب السابق، اعتقل بعد اتهامه بالتورّط في مخطط إرهابي، يقضي باغتيال شخصيات سياسية وتنفيذ مسلسل من التفجيرات في الأماكن العامة المكتظة بالناس، لإحداث أكبر قدر من الخسائر في الأرواح والأرزاق.

ولا شك أن هذا المخطط الجهنمي لو نجح لأغرق لبنان في فوضى تصعب السيطرة عليها، وأشعل فتنة طائفية لا تحتاج إلاّ إلى عود ثقاب في بلد ينام على هدنة ويفيق على فتنة. ثم تلت أحداث أخرى، بعد انفضاح مخطط سماحة، تمثلت في أعمال الخطف التي قامت بها ميليشيات مقنّعة مركّبة من عصبيات عائلية وطائفية، ردّاً على عملية خطف لبناني في سوريا اتهم بها الجيش السوري الحر.

هذه الأحداث الأخيرة غطّت على قضية سماحة التي انحسرت من دائرة الضوء، ولم تعد هي الخبر الأول في وسائل الإعلام.

ولعلّ هذا هو المطلوب؛ أن يُخطف في سوريا لبناني ينتمي إلى عشيرة كبيرة وطائفة مسيطرة، لكي يأتي الردّ في بيروت خطفاً مضاداً وشغباً وفلتاناً في الأمن، يذكر بأجواء الحرب التي اندلعت عام 1975، بل بما يعيد الأمور إلى الأسوأ، كما يبشر اللبنانيين بعضُ السياسيين، بقوله إن الحرب المذكورة سوف تكون Picnic (نزهة)، قياساً على الحروب الأهلية المقبلة.

فعلاً هذا هو المخطط منذ عقود؛ ألا تعود الأوضاع في لبنان إلى وضعها الطبيعي، بعد أن تمّ ربطها بحل كل مشاكل المنطقة التي تتراكم وتزداد تعقيداً واستعصاء. ولذلك كلما حاول لبنان حلّ مشكلة صُدِّرت له مشكلة جديدة، وكلما تجاوز نزاعاً فُبرك نزاع جديد على أرضه، وكلما عطّل مخطّطاً للفتنة سحبوا مخطّطاً آخر من عقولهم المفخّخة.. وتلك هي ضريبة الجيرة والأخوة والعروبة والإسلام.

في أي حال، يا لها من فضيحة، أن تنسف قواعد المروءة والشهامة، ويتحول المخطوف إلى "ضيف" بين أهله، كما تمارس "الأخوة" العربية في هذا العصر. سواء في أعزاز بضاحية حلب، أو في ضاحية بيروت. ويا لها من مهزلة أن يغدو الخاطف بطلاً وحارساً للهويات والقيم، أو أن يغدو الإرهابي نجماً يتباهى ويحتفي بجريمته من على منصّة الشاشة.

نحن إزاء غابة من الغرائز العمياء والعصبيات الفالتة، ولكنها غابة متلفزة، كما هي لغة العصر، تنقل وقائعها القنوات لحظة بلحظة، وفصلاً بعد آخر، بل جريمةً إثر جريمة. وأنا لست هنا لأحمّل الإعلام المسؤولية التي يحملها الساسة والخاطفون ومَن يقف وراءهم.

أعود إلى قضية سماحة التي تستحق التعليق عليها، وعلى ما صدر حولها من تعليقات أو تحليلات، سيما وأن سماحة اتهم بأنه متورط، مباشرةً، بنقل أسلحة وعبوات للتفجير ودفع أموال من أجل نجاح المخطط المذكور.

هناك من استغرب أن يُقدم رجل سياسي مثل سماحة، على نقل متفجّرات بسيارته، على ما اتُّهم به، في حين هو شخص له وجهه الثقافي منذ انخراطه وهو شاب في الحركة الطلاّبية، وكان وزيراً للإعلام، فضلاً عن كونه كثيراً ما يطلّ عبر الشاشة ليتحدث بلغة العارف والخبير بالسياسات، أو المحلّل للايديولوجيات والاستراتيجيات.

لقد رأى الكثيرون أنّ ما فعله سماحة ينحدر به إلى الدرك الأسفل، الذي يلطخ سمعته ويقلّل من شأنه. ومبنى رأيهم أن السياسيين والمثقفين والإعلاميين، يهتمون بالتنظير والتحليل والدفاع عن المواقف والسياسات بالكلمة والرأي والحُجّة، ولا ينشغلون بنقل الأسلحة وزرع العبوات وما شاكلها من أعمال حقيرة، يقوم بها العملاء والأجراء الذين تجندهم الأنظمة لتنفيذ مخططاتها التدميرية.

على هذا النحو يفكر ذوو العقل النخبوي، السياسي أو الثقافي أو العسكري، منطلقين من القسمة الحاسمة والفاصلة بين العمل الفكري والعمل اليدوي؛ فالنخب والذوات المفكرة من علماء وفلاسفة وزعماء وقادة وأصحاب مشاريع ايديولوجية، هم الذين يفكرون وينظّرون أو يصنعون السلاح أو يضعون الخطط ويأمرون بالتنفيذ.

أما نقل السلاح والقتل باليد فلا يليق بهم، لأنه من اختصاص من هم في أدنى السلم من الأدوات وعناصر المخابرات. وتلك هي فضيحة الذين استغربوا أن يُقدِم ميشال سماحة على عمل، يعتبرون أنه ليس من اختصاصه أو لا يليق به.

أخلص من ذلك إلى الوجه الآخر للقضية، كما يتمثل في علاقة سماحة بالنظام السوري الذي كلّفه بالمهمة "الأخوية". ولكن هذا النظام يعمل كسائر الأنظمة الشمولية التي يقودها زعيم أوحد أو قائد ملهم أو بطل منقذ. بحسب هذه الأنظمة، لا يوجد سوى العملاء، بالمعنيين: الذين يعملون عند النظام لخدمته وتسويغ سياسته أو تنفيذ أوامره، مقابل المعارضين للنظام الذين يتهمون بالعمالة والخيانة والتآمر...

وهكذا فإن النظام الشمولي المستند إلى ايديولوجية حديدية أو إلى عقيدة مقدّسة، لا يصنع إلا العملاء ولا يفبرك إلا الأجراء. ومن لا يذعن يُقصى أو يُتهم بالعمالة أو تتمّ تصفيته، كان سياسياً أو إعلامياً، مثقفاً أو كاتباً، وزيراً أو رئيساً للحكومة.

من هنا لا وجه للاستغراب في ما قام به ميشال سماحة، إنه أمر عادي، سواء من جهة علاقته بنفسه، كتابع أو ملحق، إذ هو لا يستحق أكثر مما فعل؛ أو من جهة علاقته بالنظام الملتحق به، لأن هذا النظام قدّره حق قدره كخادم أمين أو كعميل مطيع.

Email