فضائح الشعارات وكوارث المحتكرات

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما زال الكثيرون يحتجّون بقضية مجابهة إسرائيل، لتبرير تأييدهم للأنظمة والأحزاب التي ترفع شعار المقاومة والممانعة، ولتبرير سياساتها الفاشلة واستراتيجياتها القاتلة.

وعندما يسألني البعض، وسط كل هذه الدماء وهذا الدمار، أين نذهب بشعار المقاومة ضد العدو؟ هل نتخلّى عن تحرير فلسطين قضيتنا المركزية؟! يكون جوابي هو أن نتأمل مصائر الشعار، إذ لم يعد من المجدي التشبث بمواقفنا بعد كل هذه المآسي والكوارث التي تحول معها الشقيق والأخ في الوطن والدين، إلى عدو لدود نسعى إلى إلغائه أو تصفيته.

ولذا، فأنا أسأل بدوري: ما كانت حصيلة المقاومة بنسختها الأولى، بعد انطلاقها للعمل من الأراضي اللبنانية في مطلع السبعينات من القرن المنصرم؟ وأعني بها ثالوث التحرير؛ الفلسطيني واللبناني والعربي.

الحصيلة هي حرب أهلية طاحنة بين المسلمين والمسيحيين، ناهيك عن الحروب بين الدول والأحزاب والتنظيمات، للسيطرة على لبنان الذي تحول ساحة سائبة أو ورقة ثمينة لمن شاء أن يلعب به وعليه. وبكلام أصرح؛ حصيلة العمل المقاوم، كانت تخريب لبنان من غير استرجاع فلسطين.

وإذا كان هذا هو مصير النسخة الأولى من المقاومة، فالنسخة الثانية لم تكن أفضل، وأعني بها المقاومة الإسلامية الأحادية في لبنان، المدعومة من إيران وسوريا، إذ هي أجّجت التوتر الطائفي، وعملت على شق الفلسطينيين. والأدهى أن هذه المقاومة تكاد تمزق سوريا وتخربها، ولكن أيضاً من غير تحرير فلسطين.

لنقرأ الواقع: لقد فقَدَ الشعار مصداقيته لأن الذين أداروا القضية، من غير الفلسطينيين، قد أخفقوا وفشلوا في ضوء ما آلت إليه المصائر البائسة والنهايات الكارثية، على المجتمعات والبلدان التي كانت ساحة لقوى المقاومة وأحزابها ومنظماتها.

ولا يعني هذا النقد، على صعيد آخر، أن كل الذين ساروا وراء شعار المقاومة لم يكونوا صادقين. هناك فريقان؛ الأول آمن بالشعار بسذاجة طوباوية فوقع ضحيته، كما هي الحال عند مَن صدَّق وانخرط في صفوف المقاومة لكي يقتل ويستشهد، أو كما هي حال من أيّد ودعم لكي يفاجأ بأن الأمور تجري على عكس ما تصور، لأن السياسات والاستراتيجيات تبتلع الشعارات وتدمر القضايا.

أصل من ذلك إلى الفريق الثاني، الذي اتخذ من شعار المقاومة والممانعة مطية أو ذريعة للسيطرة والهيمنة، كما هي حال الباحثين عن أدوار ومواقع استراتيجية على هذه الساحة أو تلك، في هذا البلد أو ذاك. ولكن هؤلاء قد افتضح أمرهم وانكشفت طوية عقولهم المفخّخة ومقاصدهم المشبوهة، فالأفعال تكذب الأقوال كما تكشف النوايا.

ولهذا فهم الذين شوَّهوا ما قدّسوه، بقدر ما أنتجوا نقيض ما طرحوه، وتبنوا كل ما أعلنوا عن محاربته، لكي يتواطؤوا مع ضدهم ويصبحوا الوجه الآخر للعدو، مع فارق أن العدو سافر فيما هم عدو مستتر.

من هنا فإن اتهام الذين يقفون ضد محور المقاومة والممانعة بالعمالة والتآمر، أو بأنهم يمثلون معسكر "الكفر"، كما تفتي قياداتهم الدينية، هو منتهى الحجب والتضليل.

يا لبؤس التفكير وفضيحة الشعار، فبحسب منطقهم تغدو الأمة، بأكثريتها، كافرة أو جماعة من الخونة أو مجموعة عصابات، لأنها تفضح "مقاومتهم" المدمّرة، أو تقاوم المقاومة الحقة وتجاهد الجهاد الأكبر ضد أنظمة الاستكبار والاستبداد.

وهكذا، فقد انكشفت الأحبولة وسقطت ورقة التين وبانت السوءة والعورة. فهم أعداء الحرية والعدالة والحقيقة، وعلى عكس ما ادّعوا منذ ظهورهم على المسرح.

وإنها لفضيحة لا سابق لها، أن الترسانة التي قيل بأنها تُعَدّ لمواجهة العدوّ في الخارج، قد استُخدمت لتدمير بلد عربي، مدمّرة معها شعارات الوحدة والتحرّر والمقاومة والصحوة الدينية والنهضة الإسلامية. ويا لها من آخرة انتهوا إليها، وتلك عاقبة الذين ظلموا واستبدوا واستكبروا.

ما هي الدروس المستفادة، إذا شئنا أن لا نسدل الستار على عقولنا، أو نعاند ونكابر، كما يفعل الذين لعبوا بالشعار والساحات فصاروا هم الملعب والساحة، أو الذين انقلبوا على شعارات الحرية والعدالة من النقيض إلى النقيض، وعلى نحو وضعهم في صفّ الأعداء لمجتمعهم وأمّتهم؟

لا شعارات مقدسة تكون فوق المساءلة، حتى الدفاع عن الناس الذي هو أوجب الضرورات ليس مقدساً. قد لا يحسن الواحد الدفاع عن حقه أو حريته أو عن أرضه، ولذا فالأوجب والأولى أن تخضع القضايا إلى المناقشة والمراجعة.

لا أحد استثناء، أياً كان عملهُ، وأياً كان الشعار الذي يحمله، خاصة إذا كان يتعاطى الشأن العام. كلنا أصحاب مهن، سواء اختصّ الأمر بالمقاومة أم بألعاب الكرة، بالخلافة أم برفع القمامة.

وها هم التونسيون يناشدون رئيس الحكومة، الذي طرح لدى فوزه بالانتخابات النيابية مسألة الخلافة، أن يهتم بإزالة أكوام القمامة المتراكمة في الشوارع، التي باتت تلوّث البيئة وتشكّل خطراً على الصحة. المقاومة الفعالة هي مقاومة شعب أو مجتمع، لا مقاومة حزب أو بطل أو زعيم أوحد أو مرشد أعلى.

هذا هو الدرس الأول المستفاد من الفشل الذريع والدمار المريع. إن المقاومة الناجحة هي مهمّة الشعوب التي تحسن بناء نفسها، بتفجير طاقاتها المعطلة وإطلاق قواها الحيّة أو استثمار مقدّراتها المهدورة. كل عمل أحادي يتحول إلى لغم، سيما في البلدان ذات التركيب المتعدد الطائفي أو المذهبي، سواء تعلق الشعار بالمقاومة أم بالتنمية أم بالوحدة.

من هنا فالعمل العام، على المستوى الوطني، يتم بمنطق التعدد وقواعد المداولة والشراكة، لا بمنطق الاحتكار أو الاستئثار والانفراد. ليست المقاومة، كما التنمية، ملكاً لفئة أو لحزب أو فرد يحمل الناس على أمر من غير مشورة أو مداولة أو موافقة.

مما يعني فكّ الوصاية على القضايا، وكسر الاحتكار للشعارات من قِبل فريق للسيطرة على المجتمع أو لقمع الناس وتهديدهم. مثل هذا المنطق لا يحقق الغاية المرجوة، بل يرتدّ ضدهم، كما تشهد مشاريعهم المدمّرة واستراتيجياتهم القاتلة.

وها هي المنظومة التي تعيّشت طويلاً على القضايا وتحكّمت في المصائر، آخذة في التفكّك، ونحن نشهد الآن الفصل الأخير، ولذا فهو الأكثر دمويّة ووحشية. ولا غرابة، ما دام شعار مَن قادوا المقاومة بمختلف طبعاتها هو: ما لا أملكه وأسيطر عليه أهدّمه وأخرّبه.

 

Email