المثقف وصانع القرار

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما زالت العلاقة بين المثقف وصانع القرار في عالمنا العربي علاقة شائكة، يحكمها الكثير من الجوانب القلقة والمضطربة. ورغم طول الفترة الزمنية التي مرت منذ نشأة الدولة العربية الحديثة، فإن العلاقة بين المثقفين والحكام لم تصل بعد لدرجة من الليونة المجتمعية بما يساعد كلا منهما على القيام بعمله والأدوار المنوطة به، ويساعد على الاستفادة المتبادلة والعميقة في ما بينهما.

ولم يكن صانع القرار هو المسؤول الوحيد عن توتير هذه العلاقة كما يدعي الكثيرون، لكن الأمر يعود أيضا إلى المثقفين وجماعاتهم المتناثرة، ناهيك عن تشرذمها وتضارب المصالح في ما بينها. فقد جرى العرف في الفكر العربي المعاصر، على أن يتم توجيه اللوم لصانع القرار واتهامه بالفوقية والديكتاتورية.

ويصل الأمر إلى حد سجن المثقفين وعدم الإصغاء لهم وتبادل الحوار معهم والتعامل مع مشروعاتهم الفكرية والمجتمعية باهتمام وجدية. ولم يخلُ الأمر من اتهام مقابل من صناع القرار ومريديهم، للمثقفين بأنهم مثيرو فتن وصراعات لا يجب الحديث عنها أو الزج بقوى المجتمع المختلفة في أتونها، وما ينجم عن ذلك من كوارث لا تحمد عقباها.

ويمكن تلخيص تلك العلاقة الشائكة بين المثقفين وصانعي القرار، بكونها علاقة قائمة على عدم الثقة واستعلاء كل طرف على الطرف الآخر.

فالمثقفون يرون أنفسهم جديرين بوضع الخطط التنموية ومتابعتها، والتأكد من المسارات التي تتخذها فيما بعد. وفي الوقت ذاته فإن صانع القرار، وهو الحاكم بأمره، يجد غضاضة في قبول ما يمليه عليه المثقفون، خصوصا إذا تم ذلك بطرق خشنة لا تليق وإحساس صانع القرار بذاته وما يمتلكه من سلطات مطلقة تتيح له تقبل ما يريد وإقصاء ما لا يريد.

والواقع أن العلاقة بين المثقف وصانع القرار تتحدد بالسياقات المحيطة بها، فلا توجد علاقة مطلقة واحدة في كل المجتمعات الإنسانية. وهو أمر يتضح في ضوء التفاوتات الهائلة بين طبيعة العلاقة بينهما في العالم العربي، مقارنة بما يحدث في العالم الغربي، بل وفي الكثير من مناطق العالم الأخرى.

فالسياق الديمقراطي المجتمعي الحاكم، يوفر نمطا من تحديد الأدوار لكل منهما لا يستطيعان تجاوزه، كما يوفر اطمئنانا كبيرا، على الأقل بالنسبة لجموع المثقفين، يدفعهم لقول ما يريدون من دون خوف وهلع. وهذا ما يؤسس لمسارات عمل متواصلة ومتطورة وناضجة، تحكم العلاقة في ما بينهما بسهولة ويسر، وتطور مواقفهما وأساليبهما عبر مسارات التطور المجتمعي، والتحولات المختلفة المرتبطة بها.

فالقول بتخلف صانع القرار يقابله قول آخر بتخلف المثقفين، فكلاهما يعيش في بيئة مجتمعية واحدة؛ تطور وتقدم أحدهما رهن بتطور الآخر، والعكس أيضا صحيح. من هنا فإنه من الضروري تعميق العلاقات في ما بينهما، مع الحفاظ على قدر من الخصوصية يكفل لكل طرف مكانته، كما يكفل له عرض تصوراته ومناقشتها بما يصب في النهاية في الصالح العام، من دون تغول أو هيمنة.

نقول هذا وأعيننا على المشهد المصري الحالي، الذي تتوتر فيه العلاقة بشكل غير مسبوق بين بعض المثقفين وصانع القرار. وهو توتر يعيد مشهد النظام السابق بحذافيره، ولكن بشكل باهت وممل، يمقته التاريخ الذي يرفض الإعادة ويستهزئ بها.

ففي ظل الحيز الديمقراطي غير المسبوق في مصر الآن، مقارنة بما كان عليه الحال في ظل النظام السابق، وجد المثقفون فرصتهم لمهاجمة صانع القرار والنيل منه ومن قراراته، في مشهد يستدعي المقارنة بين صمتهم السابق وبين جرأتهم الحالية. ولا تتأسس هذه الجرأة على موضوعية ورغبة حقيقية في التطوير، بقدر ما تنشأ عن فوبيا عميقة تجاه الإخوان المسلمين.

وبالتبعية تجاه كل ما يمت بصلة للمشروع الإسلامي. يعمق من هذه الجرأة أن صانع القرار نفسه، ربما عن قصد أو غير قصد، يبتعد بدرجة أو بأخرى عن مشروع الثورة وأهدافها الراديكالية، التي استشهد في سبيلها المئات من المصريين.

يحتاج الواقع الآن إلى درجة من العقلانية بين المثقفين وصانع القرار، فلن تُجدي المواجهات والعنف اللفظي فتيلا في معركة وطن ينشد الحرية ويكافح من أجلها. وهو أمر يستدعي من الطرفين العمل معا، فلا الإخوان وكافة التيارات الإسلامية الأخرى يمثلون الوطن، ولا المثقفون أنفسهم على كافة مشاربهم وتوجهاتهم وأيديولوجياتهم يمثلون مصر وأهلها.

فحينما يتصور المثقفون أنهم الوطن، فإنهم لا يختلفون عن صانع القرار الذي ينفرد بالقرارات وبالأرض والتاريخ، وحينما لا يرى صانع القرار إلا نفسه وتصورات مريديه وبطانته، فإنه لا يختلف عن المثقفين الذين يريدون أن يلووا عنق التاريخ والثقافة، ويفرضوا أطرهم الفكرية على ملايين البشر.

تحتاج مصر الآن للمهادنة بين المثقفين وصانع القرار، بما يضمن الحوار والنقاش والتسامح، عسى الله أن يجعل لنا مخرجا!

 

Email