الصراع على المجتمع

ت + ت - الحجم الطبيعي

إن الأحداث التي تشهدها بعض البلدان العربية، بعد وصول الأحزاب الإسلامية إلى سدّة الحكم، تثبت تجربة بعد تجربة وأزمة بعد أخرى، أن المسألة سواء تعلق الأمر بالدين أم بالدولة أم بأي قوة أخرى، إنما هي مسألة الصراع على السلطة.

وبعد قيام الثورات العربية، في غير بلد، أصبح محور الصراع هو قيام سلطة ديمقراطية، تعددية، تداولية، تمارس الحكم باحترام الدستور والقوانين، وبالعمل على حلّ المشكلات المزمنة، لتحسين شروط الحياة ونوعية العيش، بما يعود بالنفع على جميع المواطنين، وبالنمو والتقدم على المجتمع بأسره.

ومع أن هذا المطلب قديم، فإنه طرح بقوة وأصبحت له الأولوية مع الثورات الشعبية الراهنة، التي تقدمت فيها شعارات الحرية والعدالة أو الكرامة والمواطنة، على شعارات الوحدة والتحرير أو المقاومة والممانعة.

وهكذا فالعدل هو الأساس الذي يجب أن توظف في خدمته كل الأفكار والايديولوجيات، وهو شعار إنساني جامع، له بعده الكوسموبوليتي العابر للهويات والأوطان.

من هنا نحن نتجاوز الآن ثنائية الدين والدولة، إذ كلاهما قد يتحوّل إلى سلطة تعمل ضد المجتمع والناس والحياة. وإذا كان الدين قد تحول في مراحل وبيئات معينة إلى أنظمة لاهوتية استكبارية، فإن هناك دولاً حكمت باسم الحداثة والعلمانية والتقدم أنتجت أسوأ أشكال العبودية. طبعاً لا يجدر تبسيط الأمور، فالدولة باتت مطلباً ملحّاً واستحقاقاً لا يمكن إرجاؤه في الدول ذات التركيب الطائفي والمذهبي المتعدد، والتي تشهد حروباً أهلية تمزق وحدتها وتهدد كيانها، الأمر الذي دفع بعض رجال الدين إلى المطالبة بالدولة العلمانية، ولكن بعد خراب البصرة.

ولكن لا يجدر تبسيط الأمور في الوجهة المعاكسة، فمن السذاجة أن نظن أن الدول تأتي لتهب الناس حرياتهم وتحكم بينهم بالعدل والقسطاس. فالدولة، أياً كان الأساس الذي تُبنى عليه، إنما هي نمط من السلطة على العقول والأجساد، بقدر ما هي شكل من أشكال السيطرة على الموارد والمصائر. ولذا فهي تنتج التفاوت والتمييز والاستبعاد أو الاستبداد، أي ما هو مضاد للعدالة والمساواة والحرية والمشروعية، وذلك لغير سبب.

الأول يتعلق بالداء البشري الأعظم، وهو كون الإنسان لا يحسن سوى انتهاك ما يدعو إليه. قد يكون الواحد صادقاً في قوله بأنه يدافع عن الحرية أو الحقيقة، ولكن ليس المهم ما يتصوره أو ما يُصرح به أحدنا، بل ما يجهله أو يحجبه أو يهرب من مواجهته، والأخطر هو ما يخرج عن نطاق التفكير وسيطرة العقل، من المطامع والنزوات والحساسيات والعقد والأحقاد.

السبب الثاني يعود إلى طبيعة السلطة التي هي استبداد بالأمر، أياً كانت طبيعتها، ديكتاتورية أم ديمقراطية. لا شك أن النظام الديمقراطي شكل نقلةً نوعية في المجال السياسي وفي حياة البشر، من حيث تداول السلطة بين موالاة ومعارضة، أو من حيث خضوع الرؤساء إلى المحاسبة والمحاكمة. ومع ذلك فمظاهر التهميش والإقصاء والتمييز، ما زالت تشكل ألغاماً في المجتمعات الحديثة، كما تشهد أزمة الديمقراطية في المجتمعات الغربية.

ثمة عامل ثالث يولد الأزمات في المجتمعات المعاصرة، هو وضعية الإنسان اليوم وشروط وجوده وأنماط عيشه، وعلاقته بنفسه وبأشيائه. لقد ادعى الإنسان الحديث أنه سيد الطبيعة ومالكها. ولا شك أنه، على صعيد العلوم والتقنيات، حقق قفزات هائلة، فُتحت معها إمكانات مذهلة. مقابل ذلك يكاد الإنسان يفقد سيطرته على نفسه وعلى أشيائه ومصنوعاته من الأنظمة والمؤسسات والتقنيات، كما تشهد الأزمات المزمنة والصدمات المتلاحقة على غير صعيد وفي غير مكان.

ومن الوهم أن يظن رجل سياسي، أنه بوصوله إلى سدّة الرئاسة يصبح سيد نفسه ومالك زمانه. ثمة رؤساء يبدون، اليوم، كواجهة لقوى غير مرئية تلعب من ورائهم، وثمة نظام غفل للأشياء أقوى من قدرة الزعماء والملوك والرؤساء.

والشاهد أن الرئيس الأميركي باراك أوباما عندما تسلم مقاليد السلطة كان شعاره: "نعم نحن قادرون"، ولكن ما نجح فيه هو القيام ببعض الإصلاحات في مجال الصحة، مقابل إخفاق في المجالات الأخرى المتعلقة بحل الأزمات المالية والمشكلات المعيشية.

وأنا أعجب كيف أن من تخلع عليهم أوصاف الأوحد والبطل والمنقذ، يبدو الواحد منهم عاجزاً عن أبسط الأمور المتعلقة بمهمة الرئيس السيد المالك: محاربة الفساد أو لجم الأهواء والنزوات!

ديغول كان حقاً سيداً، لأنه عندما واجهته التظاهرات الشعبية، أثناء ثورة الطلاب الشهيرة عام 1968، لجأ إلى الاستفتاء، مصعباً الشروط على نفسه، إذ رهن بقاءه في سدة الرئاسة بالحصول على أكثرية الثلثين، وهو مطلب مستحيل، ولعلّه كان يبحث عن مسوغ شرعي للخروج بكرامة.

كذلك منديلا كان سيداً حراً، لأنه عندما انتهت ولايته لم يشأ التجديد، بخرق القانون، مع تمسّك شعبه به بوصفه رئيساً مؤسساً، ولكنه رفض البقاء في السلطة دقيقة واحدة.

وهذه من الشواهد على أن السيادة هي الالتزام بالعهود والمواثيق واحترام الدستور والقوانين، وهي قبل ذلك احترام المرء لنفسه، بل مهابته لنفسه.

بالطبع مع ديغول ومانديلا نحن إزاء نماذج تكاد تنقرض، إذ القاعدة السائدة، في هذه الأيام، أن كل ما يقال أو يعلن، هو على عكس ما يُخطَّط له في الكواليس وفي العقول المفخخة والنفوس الموتورة.

خلاصة ذلك ليست الاستسلام والخضوع لتبرير المساوئ والمفاسد والمظالم، وإنما إعادة النظر في القضايا في ضوء التحديات وتحولاتها، أو على وقع الإخفاقات وتداعياتها. فلا وجود لفراديس على هذه الأرض، لأن الأصل هو الهوى والطمع أو الاستبداد والتمييز. وأما العقل والحرية والعدالة والشراكة، وسواها من المزايا والقيم والقواعد، فهي قشرة ايديولوجية يسهل تمزيقها وانتهاكها. ولذا فهي أبنية هشّة تحتاج إلى المقاومة الدائمة، السلمية والمدنية، الذكية والناعمة، على سبيل التعزيز والتوسيع والإثراء، وإعادة البناء بصورة متواصلة.

Email