في زحمة الأحداث السياسية والانتخابية التي شهدتها مصر الشهر الماضي، غيبت يد المنون أحد أهم المفكرين والمنظرين العرب، الدكتور أنور عبد الملك، هذا العملاق الفكري الذي لم يعرف المصريون قدره ولا العالم العربي وزنه، حق المعرفة وعين القدر.

عاش الرجل غريباً، أو إن شئت الدقة فقل مغرباً، ذلك أنه من الذين هجروا مصر خوفاً من البطش والقمع، الذي كان لا بد لكل يساري أن يلاقيه في مصر الستينيات. وفى فرنسا كان الرجل يحقق أمجاداً أدبية وفكرية، ويبدع كتابات تحث الأمة العربية والإسلامية على النهضة من السبات العميق، وعدم الاتكال أو التواكل على العلاقات مع أوربا وأميركا فحسب.

هل يمكن لسطور قليلة أن تفي قدر هذا العملاق التسعيني الذي غادر عالمنا وحيداً، إلا من نفر من الأصدقاء لا يتجاوز أصابع اليدين، كان كاتب هذه السطور واحداً منهم، ما يحزن المرء على رجالات الانتلجنسيا العربية في زمن الفضائيات التي تزخر بالمدعين وأنصاف المثقفين، في حين يذهب عبد الملك وحيداً في رحلته؟ بالقطع؛ لا.

 غير أننا نتوقف أمام التساؤل الذي شغل به الراحل الكبير طول حياته، والذي لا تزال العرب تبحث له عن جواب: كيف الطريق إلى تحقيق نهضة حضارية عربية تصل الحاضر بالماضي؟

يقدم لنا الدكتور عبد الملك رحمه الله، أربع ركائز لمثل هذه الانطلاقة:

أولاً؛ ضرب السراب الثقافي، أي القضاء على ذلك الوهم المتأصل في عقول وقلوب كثير من المثقفين العرب، والزاعم أن لا جودة إلا في الغرب، ولا تطور إلا ويسير في دروب الغرب، ولا ذوق إلا ويكون انعكاساً لعادات وتقاليد الغرب.

ثانياً؛ تأكيد وتعميق الحلف العضوي الجذري بين جماهير الشعب من ناحية، والجيش الوطني من ناحية أخرى، وتأكيد وتعميق الترابط العضوي الوثيق بين السياسة والثقافة من جهة أخرى.

ثالثاً؛ إن الموقف متخلف إلى درجة بعيدة في ما يتعلق بعلاقة الثقافة بالسياسة، فما زال القطاع الثقافي بوجه عام ضعيفاً، من حيث فاعليته في مجال الحكم الوطني.

رابعاً؛ وجوب درس الربط بين القومية والاشتراكية، ومعنى هذا أن تكون نقطة البدء هي خصوصية شعوبنا العربية، والتركيز في المقام الأول على كل ما يدعم ويعمق هذا الاتجاه القومي الاشتراكي.

قضى الدكتور أنور نحو أربعة عقود من حياته في الترويج لما اعتبره مشروعاً حضارياً عربياً جديداً، أطلق عليه «ريح الشرق». وكان السؤال الذي طالما طرحه أنور عبد الملك: هل يلتفت العرب والمسلمون إلى العالم كما هو الآن، لا كما يريد لنا البعض أن نراه؟

قد يبدو السؤال غريباً أو مبالغاً فيه بعض الشيء، ولكن منظر الساحة العربية خاصة، في قلب دائرة الحضارة الإسلامية المعاصرة، يدفع المراقب، دعنا من المشارك، إلى ذهول وإحباط.

لماذا أطلق أنور عبد الملك هذه الصيحة؟ ربما كانت رداً من قبله على انسياق العرب والمسلمين إلى ترديد السؤال: كيف نكون مثل الغرب؟ أين نحن من حضارة أوروبا وعنفوان أميركا؟ حتى السؤال الساذج: كيف يمكن أن نقنع الغير ـ أي الغرب ـ بأننا على حسن النوايا وطهارة القلب، وكأننا نتمثل نمطه الرائد الغريب؟

هنا، بحسب الراحل الكريم، أننا نتصور أولاً أننا والغرب نمثل الكون كله، بينما ثلثا الإنسانية يعيشون في آسيا، ومن بينهم الغالبية العظمى من المسلمين؛ من تركيا إلى أندونيسيا، بالإضافة إلى القارة الإفريقية وقطاعات مهمة من العالم المحيط.

والغرابة أيضاً في المقام الثاني، تلك التي «تنشأ من تصور» غالبيتنا، وخاصة الطلائع السياسية والفكرية، أن الغرب هو القدوة، بينما يؤكد أعلام الثقافة الغربية أنفسهم، من شبنغلر إلى توينبي حتى أنصار البنيوية والتفكيكية، وما بعد الحداثة والعدمية، أن الغرب دخل بخطى مهتزة إلى مرحلة الانحدار التدريجي، بالنسبة لما كان عليه حتى بداية القرن العشرين، وهو قرن الحروب الإقليمية والعالمية الكبرى، حتى مستوى إعمال السلاح الذري لإبادة مئات الآلاف من اللا غربيين عام 1945، والملايين من الشعوب التواقة إلى تحررها في كوريا وفيتنام والجزائر وإفريقيا السوداء.

الشرق إذن، عند الدكتور عبد الملك، هو الوجهة التي يجب علينا أن ندير قلوبنا وأنظارنا إليها في المقام الأول، بدلاً من حصر عقولنا وأفئدتنا في مجال التفاعل والصراع القائم منذ أجيال مع الغرب. ولا يعني ذلك إهمال كل ما هو غربي، فهذا أمر غير معقول ولا مفيد، وإنما من أجل دعم ما تصبو إليه الشعوب والمجتمعات العربية والإسلامية من نهضة صادقة واعية شاملة، يداً بيد مع القوى الرئيسة في الحضارات والثقافات الأخرى التي تعمل في عصرنا على صياغة عالم جديد.

ريح الشرق، كما وصفها البروفيسور عبد الملك، تنير الطريق، تستثير الهمم، تفتح ذراعيها لكل ما هو إيجابي وريادي، على أساس ثابت عاقل متسامح من الأركان والتوجهات.. هل حان الوقت لإعادة قراءة أفكار هذا المفكر العملاق راحلاً عن دنيانا، بعد أن تجاهلناه حياً بيننا؟