روجيه غارودي.. تقلبات ومفارقات

ت + ت - الحجم الطبيعي

رحل المفكر الفرنسي روجيه غارودي عن هذا العالم، بعد عمر مديد قارب المئة عام، وكانت حياته حافلة بمحطاتها العديدة وتقلباتها المفاجئة، كما بصخبها ومعاركها التي أثارت في وجهه العواصف والإشكالات.

وغارودي هو فيلسوف من حيث حقل اختصاصه ومهنته، ولكنه كان متعدّد الوجوه والنشاطات والمهام. فإلى جانب عمله الفلسفي بالتدريس والتأليف، فإنه امتهن السياسة لفترة قصيرة كان خلالها نائباً في البرلمان الفرنسي. إلا أن الوجه الإبرز لغارودي، أنّه جسّد نموذج المثقف العضوي والفيلسوف الملتزم، الساعي إلى تغيير العالم، تحت يافطة إيديولوجية أو بالانضواء في حزب سياسي.

وما يلفت النظر هنا، هو تقلبه بين الديانات القديمة والإيديولوجيات الحديثة. فقد نشأ على المسيحية، ولكنه ما لبث أن تركها، ليتبنّى الماركسية مشروع خلاص. وتحقيقاً لهذا المسعى، انخرط في صفوف الحزب الشيوعي الفرنسي، ليصبح أحد قادته ومنظّريه.

ثم اختلف مع الحزب، الذي كان موالياً للستالينية، وارتدّ عليه لكي يطرد منه. ولأنه لا يستطيع أن يبقى من غير إيمان أو اعتقاد، مع أن الفلاسفة يشتغلون بمساءلة المعتقدات ونقدها، فإنه اختار الإسلام، في محطته الأخيرة، فتبنى عقيدته وعّده طريق النجاة والخلاص. وغيّر اسمه لكي ينسجم مع الدين الجديد، فصار محمد رجاء غارودي. ومن أهم ما ألّفه وكتبه في هذه المرحلة كتابه "وعود الإسلام".

أتوقف عند ثلاثة جوانب في سيرته وفكره:

الجانب الأول هو مهنته؛ ولا أظلم غارودي إذ أقول بأنه، على كثرة ما ألف وساجل، لم يجدد في حقل الفلسفة، على ما نجد لدى فلاسفة أمثال هنري برغسون أو جان بول سارتر أو برتراند راسل أو ميشال فوكو أو ريتشارد رورتي أو بورغن هابرماس، وسواهم من معاصريه، من الذين ابتكروا في الحقل أو المنهج أو العدّة.

 لا تؤثر عنه، في هذا الخصوص، نظرية أو مقولة أو معادلة... وعلّة ذلك أن الاعتبارات الإيديولوجية النضالية، تغلّبت عند غارودي على الصناعة الفلسفية واللغة المفهومية. وهكذا فإن نموذج المناضل أو المجاهد قد ابتلع، عند غارودي، صورة الفيلسوف، بقدر ما تعاطى الشأن الفلسفي بعقلية الكاردينال أو المتكلم أو الفقيه.

الجانب الثاني هو موقفه من الصهونية، كما تجلّى في كتابه "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية". أعرف أن غارودي ألف كتاباً عن "الأصوليات"، هو من أحسن كتبه، إذ فيه ينتقد الأصوليات، جميعها، على حرفيتها وجمودها وانغلاقها، في ما يخص العلاقة بالأصول وتفسير النصوص، مطالباً أو ممارساً قراءة منفتحة، عصرية، راهنة وفعّالة..

ولكن الديانات بنيت على أساس مزدوج: الأول هو الإيمان، والثاني هو الاصطفاء الذي يجعل كل ديانة تعمل على نسخ الأخرى. وإلغاء هذا الأساس، أو التخلي عنه، لتخفيف أوار الصراعات والحروب الدينية، كما يؤمل، إنما يعني تحويل الدين من عقيدة أصولية مقدّسة إلى مجرد نظام خلقي جامع، وهذا أفضل له وللبشرية جمعاء.

الوجه الآخر للأساطير المؤسسة، هو تشكيك غارودي بالرواية الرسمية حول المحرقة التي تعـرض لها اليهود في زمن النظام النازي. ولم يجد أحد يتعاطف معه أو يسانده في موقفه، سوى رجل دين كاثوليكي. لأن التشكيك في هذه الرواية المعتمدة بشأن المحرقة، يعدّ من المحرمات في فرنسا وفي العالم الغربي. من هنا فإن ما كتبه غارودي في هذه المسألة، أثار في وجهه حملات من النقد والاستنكار والهجوم، وأفضى إلى محاكمته وصدور قرار بسجنه مع وقف التنفيذ.

بالطبع لاقى موقف غارودي الترحيب والثناء من جانب المثقفين العرب، الذين وقفوا إلى جانبه ودافعوا عنه. ولا أعتقد أنّ في ذلك خدمة للقضية الفلسطينية، التي لا تنصر بإنكار الظلم الذي تعرض له اليهود. ويمكن مقاربة المسألة بطريقة أخرى، بتبيان أن اليهود لا مصداقية لهم في دعوى المظلومية، إذ هم تماهوا مع النظام النازي، بعد أن تحوّلوا من ضحية في ألمانيا إلى جلاد في فلسطين.

وأستحضر هنا ما قاله الكاتب والناقد إدوار سعيد؛ فعندما سأله صحافي إسرائيلي في نهاية حوار أجراه معه: هل تعني أنك أنت الآن اليهودي؟ فأجاب سعيد: نعم أنا اليهودي، أي أنا المظلوم والمضطهد، ولست أنت. مثل هذا الموقف يفعل أكثر مما تفعله القصائد الرنّانة والخطابات الإيديولوجية النضالية.

الجانب الثالث هو اعتناق غارودي للإسلام، وهنا تتبدى المفارقة: أن يختار فيلسوف غربي الإسلام عقيدة ونهجاً، في حين تصادر السلطات الدينية في بعض البلدان الإسلامية حرية التفكير والنقد، وتتهم الفلاسفة بالكفر والزندقة.

ذلك أنه فيما كان غارودي يدخل إلى حظيرة الدين الجديد، أخرج منه المفكر المصري نصر حامد أبو زيد، الذي حوكم وأدين، بعد أن اتّهم بالإساءة والردّة. ولعلّ هذه المفارقة هي التي وقفت وراء هذا الكتاب (الاستلاب والارتداد)، لعقد مقارنة بين مثقفين كلاهما عومل كمرتد في بيئته وعالمه، وكلاهما تصرف بوصفه صاحب هوية مستلبة، مما حمله على نفي العالم بانتظار الفردوس الموعود.

فغارودي، كمثقف وداعية، يحركه هوام المخلص والمنقذ، فبرك للإسلام صوراً طوباوية لا تنطبق عليه، لا ماضياً ولا حاضراً، ولا سبيل إلى تطبيقها في مكان من الأمكنة، وهذا ما سمّيته "لاهوت التحرير".

أما أبو زيد، الذي تبنّى إيديولوجية القرن الثامن عشر الأوروبي، فقد تعامل، هو الآخر، مع شعارات الاستنارة والعقلانية والتقدم والتحرر، بصورة طوباوية، لا علاقة لها بما جرى على أرض الواقع، وهذا ما سمّيته "لاهوت التنوير".

ولكن مع فارق بين الاثنين، وهو أن فكر ابو زيد النقدي، عبر إخضاع التراث الديني للدرس والتحليل، فإنه يفيد المجتمعات العربية، بقدر ما ينتج معارف حول أوضاعها تسهم في تشخيص مشكلاتها واستشراف آفاق تطوّرها.

وبالعكس، فإن دخول غارودي إلى الإسلام، قد يعزّز النرجسية الثقافية لدى المسلمين، على نحوٍ يحول بينهم وبين الخروج من حالة العجز والتخلّف، لأن التحدي هو كسر النرجسية الأحادية والعقلية الاصطفائية، بابتكار صيغة حضارية تفتح خطوط التواصل بين المسلمين الذين تغرقهم حروبهم الأهلية بالدماء.. هذا هو الاستحقاق الذي نهرب منه.

Email