تراجع التيار اليساري في مصر

ت + ت - الحجم الطبيعي

رغم ما قدمه المفكرون اليساريون في مصر من مؤلفات وترجمات راقية المستوى، بالقياس لغيرها من التيارات الفكرية الأخرى، ليبرالية ودينية، ورغم الأدوار المهمة التي لعبتها الحركات اليسارية المختلفة على المستوى السياسي الحركي، وبشكل خاص بين صفوف الطبقات العمالية، فإن التيار اليساري يعاني من ضعف شديد.

وربما نسيان شعبي شبه تام. وإذا كان بعض التيارات الليبرالية قد شهد قدراً من الصعود بعد اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير، فإن التيارات اليسارية بالإجمال قد شهدت تراجعاً هائلاً، ظهر من خلال نتائج مجلسي الشعب والشوري، رغم الامتداد التاريخي العميق لها، وبشكل خاص بين الحركات والنقابات العمالية.

ويبدو الحديث عن التيار اليساري ضرباً من التذكر والاستدعاء، أي ضرباً من ضروب التاريخ، فنحن لا نتذكر هذا التيار بوجوده الفعلي الحاضر، والمتمثل شعبياً وحركياً، لكننا نتذكره من خلال ذكريات جهود ماضية، ومن خلال شخصيات راحلة أو موجودة بيننا حتى الآن. نتذكره من خلال مبنى حزب التجمع الواقع في شارع كريم الدولة وسط القاهرة.

ومن خلال جريدة الأهالي البالية غير المقروءة، ومن خلال دور النشر اليسارية التي قدمت للثقافة المصرية كنوزاً من الترجمات المرتبطة بالفكر اليساري والإبداعات الفنية المرتبطة به، وبشكل خاص في مجالي الأدب والفكر السياسي الماركسي. وأخيراً، نتذكره من خلال بعض الشخصيات الأثيرة التي ارتبطت باليسار المصري، مثل الراحلين محمود أمين العالم، ومحمد سيد أحمد، وفؤاد مرسي، وإسماعيل صبري عبد الله، والأحياء خالد محيي الدين، ورفعت السعيد، وشريف حتاتة، وعبد الغفار شكر، وغيرهم.

ورغم محاولات بعض أقطاب اليسار المصري الحالي تشكيل أحزاب سياسية جديدة، تعمل على الخروج من مأزق الجمود اليساري وإنعاشه في قوالب سياسية جديدة، فإن اللافت للنظر هو المزيد من التراجع بشكل كبير جداً، أوصل حزب التجمع للتقوقع الشديد ضمن مقره القديم المتهالك. ولقد كشفت ثورة الخامس والعشرين من يناير بشكل كبير، عن حالة الضعف الكبير التي ارتبطت باليسار المصري بشكل عام.

وبحزب التجمع بشكل خاص، في ظل الصعود الهائل للتيارات الدينية الإسلامية والقبطية على السواء. واللافت للنظر هنا أن الأقباط الذين لعبوا دوراً تاريخياً ومؤثراً من خلال نخبهم المثقفة، في الترويج للتيارات اليسارية وغيرها من التيارات التقدمية الأخرى، قد ابتعدوا عن اليسار، وأصبحوا أكثر التصاقاً بكنيستهم ورموزهم الدينية المختلفة.

والواقع أن أزمة اليسار المصري هي أزمة غيره من التيارات الأخرى غير الدينية، والتي تأتي على رأسها التيارات الليبرالية والعلمانية التي لم تحقق قدراً كبيراً من الانتشار والذيوع، مقارنة بالتيارات الدينية. فالفكر اليساري المصري لا يشبه مثيله في دول أميركا اللاتينية.

حيث ظل محصوراً بين النخب المثقفة وصالوناتهم الضيقة. وحتى وهو يحقق انتشاراً بين الطبقات العاملة المصرية، فإنه لم يكن مُستوعباً فكرياً من قِبلها، وارتبط بمصالح نقابية خاصة بالعمال الذين تغلب عليهم المصالح الفئوية الضيقة، وغياب الفكر السياسي العميق، والرؤى الاستراتيجية بعيدة المدى.

وإذا كانت التيارات الدينية تجد الواقع جاهزاً وممهداً لها للترويج للفكر الديني وربطه بالدعاية السياسية، فإن التيارات اليسارية لا تستطيع الحديث عن الطبقات وأساليب الإنتاج والبنى الفوقية والتحتية وتشويه الوعي، بين مواطنين يتسمون بالفقر والأمية.

وعموماً، فإن القاعدة الثابتة، هي أن الأفكار التي لا يستوعبها المواطنون، ينتهي بها الحال إلى التناول الفوقي المريح من جانب النخب المروجة لها، وهو أمر حدث بشكل كبير بين النخب اليسارية المصرية التي قدمت مؤتمرات وندوات عميقة الأفكار، لكنها ظلت تحلق بمفردها بعيداً عن الجماهير وإمكانية التواصل معها.

وهو بالطبع أمر لم يحدث مع أي تيار ديني إسلامي أو قبطي؛ فما قامت به جماعة الإخوان المسلمين من تواصل هائل مع الجماهير، وما قامت به الكنيسة القبطية ورموزها من عزل مستمر للأقباط بعيداً عن الدولة، أفضى بدرجة أو أخرى إلى ما رأيناه في انتخابات الرئاسة الأخيرة من انقسام هائل، وفقاً لرؤى مسبقة متسلطة على عقلية المصريين ورؤاهم السياسية.

يمر اليسار المصري بأزمة حادة، لا تتناسب وتصريحات رئيس حزب التجمع الذي يهدد ويتوعد، وهو لا يملك قاعدة جماهيرية تتناسب ومثل هذه التصريحات، وهو أمر أدركته التيارات الدينية التي دعته لإدراك حجم الجماهير التي يمثلها على الساحة المصرية، وهي محقة في ذلك إلى حد كبير.

وما لم تعِ التيارات اليسارية حجم الأزمة التي تمر بها، وما لم يعِ رئيس حزب التجمع حجم الجماهير التي تقف وراءه، فإن محاولات تجديد هذا التيار وتقويم مساره، سوف تبوء بفشل ذريع، يؤكد نهاية هذا التوجه في مصر لمدة طويلة من الزمن.

 

Email