خطاب الرئيس المصري بين التقليدية والحداثة

ت + ت - الحجم الطبيعي

أرجئ الحديث عن الفيلسوف روجيه غارودي الذي رحل مؤخراً، فالحدث المصري يفرض نفسه. وأنا كلبناني يعنيني ما يحدث في مصر، كأنه يحدث في لبنان، لما للدولة العربية الكبرى من الدور الفاعل والمؤثر، إيجاباً أو سلباً، حضوراً أو غياباً، على الساحة العربية والإقليمية.

والحدث تجلى في فوز الدكتور محمد مرسي، مرشح حزب الحرية والعدالة، الإخواني، بالانتخابات الرئاسية. بذلك يكون مرسي أول إسلامي يصل إلى سدّة الرئاسة في مصر، وأول رئيس مصري يأتي بالاقتراع الديمقراطي.

ومع ذلك، لا أقول بأن مصر أصبحت في قبضة الإخوان المسلمين.. ربما العكس هو الصحيح. بمعنى أن الرئيس مرسي لن يكون حاكماً مطلق الصلاحية، ليس فقط لأن الجيش ما زال يشكّل إحدى القوى التي لها فاعليتها وأثرها، بل لأن الوزن السياسي للإسلاميين، إخوانيين أو سلفيين، هو أقل بكثير مما كانوا يحسبون أو مما يخشى منه خصومهم.

هذا ما شهدت به نتائج الانتخابات الرئاسية، حيث المصريون كانوا منقسمين، بين قوتين تكادان تكونان متعادلتين من حيث عدد الأصوات، إذ الفارق بين الدكتور مرسي وخصمه الفريق أحمد شفيق ضئيل (51.73% مقابل 48.27%). يضاف إلى ذلك أن الذين صوتوا لمرسي ليسوا كلهم إسلاميين، بل هو حظي بتأييد قسم من الكتلة المؤلفة من ناشطي الثورة ومن القوى القومية واليسارية والمدنية، التي وقفت ضد ترشيح أحمد شفيق للرئاسة.

ولكنْ هناك قسم آخر من الكتلة المذكورة، لم يصوّت أفراده للدكتور مرسي، لأنهم لا يثقون بحزب الحرّية والعدالة بعد أن خذلهم غير مرة. أياً يكن الأمر، فنتائج الانتخابات أثبتت أن الخارطة السياسية متعددة القوى والتيارات، ولن تسيطر على مسرح اللعبة فئة واحدة أو قوة طاغية. وهذا يصبّ في مصلحة الديمقراطية، التي تتعارض مع أحادية الزعيم والحزب أو الرأي.

أخلص من ذلك إلى ما حملني على كتابة هذه المقالة؛ التعليق على الكلمة التي ألقاها الرئيس مرسي بعد الإعلان عن فوزه. ويؤسفني أن أقول بأنني فوجئت بها، إذ هي تشكّل تراجعاً عن خُطَبه وتصريحاته وحواراته أثناء الحملة الانتخابية، سواء لجهة منطوق الخطاب أو منطق المفهوم. ففي أثناء الحملة، تكلّم المرشّح محمد مرسي كسياسي حديث، في حين تحدّث في كلمته الرئاسية كداعية أو عالم دين.

وأتوقف عند أربع نقاط:

* لقد أكّد الدكتور مرسي أنه لا يميّز بين المسلمين والمسيحيين، لأنه انتُخب رئيساً لجميع المصريين. وحسناً فعل، ولكنه افتتح كلمته وأنهاها كشيخ مسلم يلقي خطبة في مسجد. صحيح أنه استبعد من كلمته ما يمكن أن يشكل مثار اعتراض، سواء من جانب الأقباط أو من جانب الفئات العلمانية، إلا أن هذا الاستبعاد لا يغير من الطابع الفقهي والشرعي والإسلامي لكلمته. وهذا لا يصبّ في مصلحة الدولة الوطنية الدستورية، التي لا تميّز بين المواطنين على أساس الدين أو الطائفة.

* هناك عبارة تكرّرت أكثر من مرة في الكلمة، هي عبارة "أهلي وعشيرتي"، التي تعيدنا إلى ما قبل عصر الدولة. فإذا كان مرسي مع الدولة الديمقراطية، حيث المصريون متساوون جميعاً أمام القانون، كما أكد في كلمته، فلماذا لم يخاطب المصريين بلغة أخرى، بوصفهم "مواطنين" في "مجتمع مدني".

صحيح أن كلمة "وطن" أو وطنية تتكرّر في خطابه، ولكن كلمة "المواطن" ليست مشتقة من مفهوم الوطن كأرض أو كمساحة جغرافية، وإنما هي تحيل إلى المدينة أو الحاضرة، أي إلى المجتمع المدني. ولا قوامَ للديمقراطية، من دون مجتمع مدني يعيش فيه الجميع كمواطنين متساوين، في الحقوق والواجبات، بوصفهم ذوي هويات عابرة للبنى التقليدية والأطر الأهلية. فهذا ما تحتاج إليه مصر الآن، وما يحتاج إليه كل بلد عربي ذي تركيبة مجتمعية متعدّدة الطوائف.

* مع أن الدكتور مرسي ناشد المصريين أن يعينوه على بناء نهضة أو تنمية حقيقية لمصر، فإنه تحدث بلغة أبوية بطريركية، ولهذا استخدم عبارة "أحبابي" في خطابه. ولا أعتقد أن هذا يأتلف مع بناء الدولة الحديثة، حيث الرئاسة بمثابة "إدارة" ناجحة وفعالة للشأن العام أو للمصلحة العمومية، وحيث الرئيس يعمل مع فريق عمل حكومي أو استشاري من الاختصاصيين والخبراء في كل المجالات.

* يحمد للرئيس المصري الجديد أنه عدد جميع فئات الشعب المصري، بمن فيهم من يُعدّ على الهامش أو في أدنى السلم الوظيفي أو الاجتماعي، معتبراً أن الكلّ يحظون بتقديره واحترامه ما داموا يحترمون القوانين ويخدمون وطنهم.

ولكن الرئيس مرسي قد استثنى من تعداده فئة واحدة لم يأتِ على ذكرها، مع أنه ينتمي إليها، وأعني بها فئة المثقفين، على اختلاف اختصاصاتهم وتياراتهم. فلهؤلاء حضورهم ودورهم، سواء عبر مؤلفاتهم وأعمالهم، أو عبر انخراطهم في الشأن العام، كما تشهد مداخلاتهم ومناظراتهم ومقالاتهم في الأحداث البارزة والقضايا الساخنة، عبر الصحافة والشاشة.

هذا الاستبعاد قد لا يكون مجرّد سهو، وإنما يصدر عن عقلية الاستبعاد المتبادل بين المثقف الحداثي والداعية التراثي، بقدر ما يجسد ثنائية تحكّمت في عقول المثقفين العرب، أعني ثنائية الأصالة والحداثة أو الإسلام والغرب. وهذه ثنائية خادعة مزيفة، لأن الإسلاميين ليسوا ذوي هوية تراثية صافية كما يدّعون، وإنما هم غربيون بمعارفهم وأدواتهم وأزيائهم، بل بسياساتهم وتحالفاتهم.

ولا يعني ذلك أن علينا استيراد المرجعيات وتقليدها، كما فعل بعض الحداثيين الذين فشلوا وأخفقوا. فلا تغيير، أياً كان الشعار، في أي مجتمع كان، من دون إتقان لغة الخلق والابتكار، بالاستفادة من كل التجارب والنماذج، ماضياً وحاضراً، تراثاً وحداثةً. إن العالم اليوم في أزمة تطال مختلف العناوين، سواء تعلق الأمر بالديمقراطية أو بالحرية أو بالعدالة.

وسواها من الشعارات التي تحتاج إلى إعادة البناء. وهذا هو الرهان؛ ألا نقلّد الحداثة، ولا أن نفزع منها، أو نسطو عليها لكي نلبسها لبوس الدين، بل أن نعمل على تطويرها وتوسيعها وإغنائها، بابتكار عناوين جديدة.

فالذين نجحوا هم الذين فكروا وتصرفوا كساسة محترفين، همهم الأول ابتداع الأفكار والوسائل التي تقود إلى ازدهار بلدانهم. وهؤلاء لم يتخلوا عن هويتهم، بل مارسوها بصورة مثمرة وبنّاءة، حضارية وعالمية.

 

Email