النخب المصرية والتوحد بالمتسلط

ت + ت - الحجم الطبيعي

أبرز ما كشفت عنه انتخابات الرئاسة في مصر، هو ذلك الضعف الشديد في النخب المصرية، واهتراء الأيديولوجيات التي تستند إليها. فلم تكن مأساة مصر في هيمنة التيارات الإسلامية بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، كما لم تكن مأساتها في ذلك الحوار التافه والعقيم حول مدنية الدولة وبعدها عن توجهاتها الدينية العميقة والراسخة في أعماق المصريين، بقدر ما كانت مأساتها في ضعف نخبها الفكرية المختلفة؛ ليبرالية ويسارية ويمينية وعلمانية.

فالواقع أن الثورة المصرية التي بدأها شباب متناثر هنا وهناك جمعته الرغبة العارمة في التغيير ومواجهة السلطة القمعية، لم تكن مصحوبة بأية تيارات أو نخب فكرية مجتمعية حقيقية، وربما ساهم ذلك في نجاحها على المستوى القصير، لكنه دفعها إلى مسارات منحرفة ومتضاربة على المدى الطويل. ولعل ما جرى أثناء انتخابات الرئاسة المصرية، يمثل كاشفا مهما لغياب تلك النخب الفكرية والأدوار المنوطة بها في اللحظات الحاسمة من عمر الثورة.

والسؤال المهم هنا يتعلق بأسباب ضعف النخب المصرية وعدم قيامها بأدوار مهمة تحفظ للثورة مساراتها، وتضيف إليها زخما جديدا يجاوز المد الديني الذي مثل بالنسبة لها فوبيا مرضية مبالغا فيها، أظهرت مدى الضعف والاهتراء الذي تنطوي عليه هذه النخب البعيدة تماما عن الشارع والقضايا الفعلية المرتبطة به.

ورغم وجود أسباب عديدة لضعف النخب العربية عموما والمصرية خصوصا، فإن أهم أسباب هذا الضعف تعود إلى نشأتها التاريخية المرتبطة بالدولة ومن ثم بالحكام. فمنذ رفاعة رافع الطهطاوي وحتى رفعت السعيد، ومنذ علي مبارك وحتى سعد الدين إبراهيم، لم يتغير حال هذه النخب في ارتباطها بالدولة وحصولها على امتيازاتها المادية والمعنوية في كنفها، ومن خلال ما تفيض به عليهم وفقا لمدى قربهم منها، ومن ثم مدى رضاها عنهم.

تتحول حياة هذه النخب وتتشكل وفقا لأهواء الدولة ومشروعات الحكام، فقد كان مشروع الطهطاوي مرتبطا بمحمد علي، وكان مشروع مثقفي الستينات في مصر مرتبطا بعبد الناصر. كما خلق انفتاح السادات نخبا مرتبطة به، وأخيرا كانت نخب مبارك هي النموذج الأشد سوءا والأكثر تجسيدا لما آل إليه حال ارتباط النخب المصرية بمشروعات الدولة، ومن ثم شخص الحاكم.

وهذا الارتباط التاريخي الطويل بالدولة، يخلق حالة نفسية من الاعتماد عليها والتعلق بها. إضافة إلى ذلك، لم تخلق هذه النخب أية تيارات فكرية متجذرة في الواقع اليومي؛ فالمصريون لا يعرفون عن اليسار شيئا، كما تمثل الليبرالية أو العلمانية بالنسبة لهم كلمات مبهمة، يستخدمونها فقط في تكفير الآخرين وإلقاء التهم شمالا ويمينا.

ولذلك ظلت هذه النخب أبعد ما تكون عن الشارع المصري بدرجة كبيرة، مفسحة الطريق على مصراعيه للجماعات والتيارات الدينية، إسلامية ومسيحية، وهو أمر يفسر بدرجة كبيرة من الوضوح، حجم التأثير الذي تمارسه تلك الجماعات الإسلامية على المصريين، كما تمارسه الكنيسة المصرية على الأقباط.

هذه الحالة النفسية عميقة الجذور التاريخية، تؤدي لا محالة إلى توحد هذه النخب بالحاكم، وتعزيز وضعيته وإضفاء الشرعية عليه، ومن ثم الاستقواء به، والإحساس المتواصل بأن وجود هذه النخب رهن في النهاية بوجود الحاكم واستمراريته. والغريب في الأمر هنا أن بعض هؤلاء قد جربوا ظلم الحكام وعانوا منهم عنتا وصل لحد السجون، قبل أن يرضى عنهم الحاكم وتتواصل عطاءاته المختلفة لهم، لكنهم رغم ذلك يعودون ليواصلوا توحدهم بشخص الحاكم المستبد المهيمن والقاهر.

لقد كشفت الانتخابات المصرية الأخيرة عن غمة النخب المصرية واهتراءاتها، وهي تفاضل بين مرشح الإخوان ومرشح العسكر، مفضلة الأخير من أجل دعاوى ساقطة وواهنة، تتمثل في الخوف على الدولة المدنية وعلى تراث مصر وحضارتها ومشروعها الممتد عبر التاريخ، وغيرها من الكليشيهات الجاهزة التي تلوكها هذه النخب ليل نهار، وتسمم بها عقول المصريين البسطاء.

واللافت للنظر هنا، أن هذه النخب التي لم تتوحد ضد مبارك، ولم تجد لها مشروعا فكريا حقيقيا يدعو للتغيير الفعلي في مصر عبر الثلاثين سنة الماضية، تحاول الآن البحث عن تيار ثالث تواجه به الإخوان والعسكر، من خلال مجموعة من المفكرين المتلونين الذين كالوا الاتهامات للإخوان والتيارات الإسلامية بحق وبغير حق، ونسوا أو تناسوا دور العسكر في ما حدث في مصر منذ الثورة وحتى الآن، رغبة منهم في البحث عن متسلط جديد يتوحدون به ويمد لهم فيوضاته المادية والمعنوية على السواء!

ستظل النخب المصرية هكذا حائرة مهترئة، لا تنتج فكرا أو تغييرا فعليا بقدر ما تنتج مسارات جديدة تحقق لها مصالحها الضيقة. كما أنها لن تنجح في خلق مشروعات حقيقية للتغيير، إلا إذا قطعت أواصر صلاتها بشخص الحاكم- الدولة، أو تعاملت معه من خلال شروطها، وبعيدا عن مصالحها الشخصية بالغة الأنانية.

 

Email