الخارق والاستثنائي

ت + ت - الحجم الطبيعي

المعجزة، بمفهوم الفعل البشري، هي عمل استثنائي وخارق، ولكن ليس لقوانين الطبيعة. إنها فعل بشري يُجترح معه الإمكان الذي يحوّل العجز إلى قوة، أو الخوف إلى جسارة، أو الأنانية إلى مأثرة.. أو هو صنع معايير وقواعد يخضع لها الفرد، ولو كانت لا تجلب له مصلحة آنية، بل لو كانت تقوده إلى سوء العاقبة، إذ يجد فيها مصلحة العموم، أي مصلحة المجتمع الذي لا تستقيم حياة من دونه.

ومثالها سقراط الذي هيأ له تلامذته سبل الهرب، بعد أن حُكم عليه بالإعدام، ولكنه لم يشأ الخروج على قوانين المدينة، فبقي في السجن ليواجه الموت بشجاعة.

مثالها الآخر، ذلك الجاهلي الذي رفض أن يبيع فرسه، فاحتال عليه من أعجبته وأراد شراءها، بأن مرّ من أمام منزله متخفياً، متمارضاً. عندها أسرع الرجل لإسعافه، بأن ساعده على ركوب الفرس لنقله إلى حيث تمكن معالجته. ولكن الرجل عندما صار على صهوة الفرس طار بها، فناداه صاحبها: بالله عليك لا تقل إني سرقتها كي لا تضيع المروءة!

مثال آخر من العصر الجاهلي؛ ما حصل أثناء المبارزة المشهودة والحاسمة، بين علي بن أبي طالب وعمرو بن ودّ العامري، والتي قيل فيها يومئذٍ، إن الإسلام كله نزل إلى الكفر كله. ومما يروى أن الأول، وكان راجلاً، طلب من خصمه، وكان فارساً، أن ينصفه، فاستجاب له ونزل عن فرسه وعقرها، كما تقضي قواعد المروءة. وكانت النتيجة أن علياً تغلب على عمرو وقتله، وتلك هي المفارقة!

فأين نحن، اليوم، من مثل هذه المعجزة التي تجعل الجاهلي يخضع، أثناء القتال، للقواعد الأخلاقية؟ شتان بيننا وبين الجاهليين، نحن الذين نقتتل بصورة همجية، بانتهاك كل الحرمات والأعراف والقوانين، وبصورة نتفوّق بها على من نعتبرهم أعداءنا! وها هي مجزرة الحولة تقدم الشاهد الفاضح، إذ هي تشكل الوجه الأبشع لمجزرة قانا، ففي قانا لم يرَ الأطفال قاتلهم، ولم يرهم هو؛ بينما في الحولة رأى الأطفال قاتلهم عندما همّ بذبحهم.

بالطبع هناك من يعتقد بأن المعجزات تنحصر في الأفعال التي تخرق قوانين الطبيعة، بتدخّل غيبي أو سماوي. ولكن المعجزة البشرية ليست عملاً يجري ضد الطبيعة، بل فعل بشري هو ثمرة جهد يبذله الفرد أو المجتمع على نفسه، بصورة تنتج قيمة، أو تشكل قدوة، أو تحقق إنجازاً، أو تصنع نموذجاً ومثالاً، في الخلق والسيرة والمعاملة، أو في تدبر الشؤون والمصائر المشتركة. إنها التمرس بسوس الذات للجم الغرائز العمياء، والحد من الجشع الفاحش والفتاك للثروة والسلطة والشهرة.

ما يجري في بعض البلدان الغربية، لجهة محاسبة الرؤساء والوزراء لأدنى خطأ يرتكب، بتقديم استقالتهم أو محاكمتهم، هي أمور معجزة بالنسبة لما يجري عندنا من فساد مالي ونهب منهجي للأموال العمومية.

بالطبع، ليس محكوماً على المجتمعات العربية بأن تبقى فريسة أنظمة الفساد والاستبداد. فما حدث مع الثورات كان أشبه بمعجزة، صنعتها الشعوب العربية التي مارست حيويتها الوجودية بكسر حاجز الصمت وطوق الاستبداد، لتبني لنفسها مستقبلاً، وفقاً لقيم العصر الكونية، كالتعددية، والشفافية، والديمقراطية...

إن المجتمعات البشرية تحتاج إلى المعجزات الخلقية، أكثر مما تحتاج إلى المعجزات الربانية والخوارق المنسوبة إلى الأنبياء والرسل والقديسين.

ما تحتاج إليه المجتمعات، هو ما يسهم في وقف النزاعات والحروب. ها هنا المعجزة الحقة، التي تحتاج إلى اشتغال خارق على الذات، وعلى نحوٍ يجعل العيش سوياً أمراً ممكناً بين الناس، بأقل التكاليف من العنف والاستبداد.

وأراني هنا أستحضر موقف رجلٍ استثنائي، ودّعه لبنان مؤخّراً، هو الصحافي والسياسي غسان تويني. فبعد اغتيال ابنه، لم يشأ التفكير بلغة الحقد والثأر والانتقام، بل كظم غضبه وحوّل حزنه إلى فرصة لتأكيد قيَم الحوار والمصالحة والتسوية، أي على ما يحتاج إليه لبنان. ولا شكّ أن مثل هذا الموقف هو من قبيل المعجزة.

وكان شعار الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، أثناء حملته الانتخابية، في ما يخصّ أسلوبه في الحكم أو طريقته في المعاملة، أن يتصرف كرئيس سويّ أو عادي. ولم يكن القصد من كلمة «عادي» أن تفهم كنقيض لما هو «استثنائي».

بالعكس، فقد رمى هولاند من ورائها إلى الطعن في منافسه، الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، الذي اتهمه البعض بأنه حول منصب الرئاسة إلى منصب شخصي، وبأنه مارس الاستئثار والاستحواذ أو الطغيان، إذ كان يتدخل في كل أمر، ويدلي برأيه في كل شأن، ويصرّ على أن يحضر في كل مشهد أو محفل، من غير أن يترك لوزرائه ومساعديه الفرصة لكي يقوموا بوظائفهم ومهامهم.

طبعاً، قد يقال بأن منصب الرئاسة هو منصب استثنائي وغير عادي. ولكن هولاند وعد بأن يتصرف بصورة عادية، ولو كان يقوم بوظيفة استثنائية.

هل ينجح في ذلك؟ إنه أمام التحدي، لأن الرهان صعب. فالسلطة غرارة، وشهوة الحكم غدارة، مخاتلة، قد تجرّ صاحبها إلى خرق القوانين وانتهاك المبادئ، على ما اتهم بذلك ساركوزي، الذي مارس السلطة في بلد جمهوري على طريقة لويس الرابع عشر، صاحب الشعار القائل: «الدولة هي أنا».

هنا يحضر الحديث القائل: «رب لا تكلني إلى نفسي طرفة عين»، لأن النفس أمّارة بالسوء. وترجمة هذا الكلام بلغة حديثة، تعني أنه لا يصح، في ما يخص الشأن العام والعيش المشترك، الركون إلى أحد، أكان رئيساً أم موظفاً صغيراً.

هذا ما تفعله بعض البلدان الغربية التي ابتكرت صيغة لحياتها السياسية، سواء عبر محاسبة المسؤولين، أو عبر اختيارهم بالاقتراع الديمقراطي.

فهل تنجح مجتمعاتنا في ابتكار صيغتها الديمقراطية، وفي إقامة دولة القانون والمؤسسات، لكي نحول ما ننظر إليه عندهم كمعجزة، إلى أمر عادي وسلوك يومي، فننجح كما هم نجحوا؟ مرة أخرى، إنه الرهان الصعب.

 

Email