كيف يمكن لدولة صغيرة فرض نفسها دولياً؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

لقد علمتنا السياسة أن حجم الدول يلعب دوراً أساسياً في تحديد دورها في النظام الدولي، فالدول الصغيرة يفرض عليها حجمها أن تكون أقل استقلالية وأكثر التزاماً بقواعد النظام الدولي، وهو عكس حال الدول الكبيرة التي يفرض عليها حجمها في الغالب أن تكون أكثر استقلالية وأقل التزاماً بقواعد النظام الدولي، وأكثر انخراطاً في التأثير في تسيير الشؤون الدولية، ولو كان ذلك على نطاق إقليمها الجغرافي.

ولعل حالتنا العربية تحمل لنا نموذجاً استثنائياً عن تلك القاعدة السياسية، تمثله بشكل جلي دولة قطر الصغيرة في الحجم والكبيرة في التأثير. قطر الواقعة على ضفاف الخليج العربي، تعتبر دولة صغيرة من حيث المساحة الجغرافية والتعداد السكاني؛ فمساحتها الجغرافية تضعها في الترتيب السادس والستين بعد المئة بين دول العالم.

وهي بذلك تكون خامس أصغر دولة عربية من حيث المساحة، بعد لبنان وجزر القمر والبحرين والضفة وقطاع غزة التي تليها في الترتيب. أما عن حجمها السكاني فلا يتعدى المليوني نسمة، الأمر الذي يضعها في المرتبة السابعة والأربعين بعد المئة بين دول العالم، وهي بذلك تكون ثالث أصغر دولة عربية من حيث السكان، بعد البحرين وجزر القمر التي تليها في الترتيب.

رغم هذا الواقع الجغرافي، إلا أن دولة قطر، ومنذ عام 1995، بدأت تأخذ لنفسها منحى آخر يختلف عما كانت عليه قبل ذلك العام. فقطر ما بعد 1995 مختلفة كل الاختلاف عن قطر ما قبل 1995، حيث إن سياستها الخارجية غدت أكثر استقلالية عما كانت عليه في السابق، وأصبحت أكثر اندفاعاً نحو لعب أدوار سياسية في تحديد واقع ومستقبل المنطقة.

فمن الانفتاح على إسرائيل، وإطلاق قناة الجزيرة، ودخولها معترك تنظيم المناسبات الكبرى، كجولة الدوحة للتجارة، والألعاب الآسيوية، وحصولها على حق استضافة كأس العالم لكرة القدم، وتوسطها في أزمات إقليمية، إلى دورها في دعم الثورات العربية في كل من تونس وليبيا ومصر وسوريا؛ حتى غدت قطر الشماعة التي يحاول الكثيرون إلقاء مشاكلهم عليها، باعتبارها السبب وراء ما يحدث في بلادهم.

حيث لم يتوقف ذلك عند حد الاتهامات السورية التي تضع قطر في قفص الاتهام وراء دعم الثوار السوريين بالمال والسلاح، بل تعدته إلى اتهامات أخرى تشير بإصبع الاتهام إلى قطر في دعم الجماعات المسلحة في شمالي مالي، وأنها وراء محاولات سحب الثقة عن حكومة نوري المالكي في العراق!

وبغض النظر عن مدى صحة تلك الاتهامات من عدمه، إلا أن قطر استطاعت أن تفرض نفسها على الساحة الدولية كلاعب مهم في منطقة الشرق الأوسط. ويمكن إرجاع هذا الأمر إلى عدة عوامل أساسية:

أولاً؛ وجود القيادة السياسية الراغبة في أن تأخذ خطوات جريئة، وتحمل رؤية واضحة إلى ما تريد أن تحققه قطر من مكانة عالمية. هذا بالطبع قد يجلب العديد من المخاطر، ولكن يبدو أن القيادة القطرية قد أدركت أنها مستعدة لتحمل المخاطر في سبيل تحقيق هدفها في أن تكون طرفاً مؤثراً في خلق واقع ومستقبل المنطقة، بدلاً من البقاء خارج المعادلة كطرف متلقٍّ.

ثانياً؛ امتلاك الأدوات الصحيحة القادرة على تنفيذ ذلك الهدف، والمتمثلة في القدرات السياسية والاقتصادية والإعلامية. فالقدرات السياسية تشمل وجود دبلوماسيين نشطين يسعون لتحقيق تلك الرؤية، والقدرات الاقتصادية تعني الإمكانات المادية القادرة على تحقيق التأثير لمصلحة تحقيق تلك الرؤية، والقدرات الإعلامية القادرة على الترويج لتلك الرؤية.

ثالثاً؛ وجود تجانس واستقرار اجتماعي داخلي، يقف وراء القيادة ويدعمها في توجهها الخارجي، فهذه الدولة الأكثر انخراطاً في الشأن العربي، هي أقلها عرضة لإمكانية حدوث قلاقل شعبية داخلية، فشعبها صاحب أعلى مستوى معيشة في العالم.

ورابعاً؛ هناك حليف دولي قوي يتولى عملية الدفاع عن أمن واستقرار الدولة من التهديدات الخارجية، والمتمثل في الولايات المتحدة الأميركية التي يعتبر وجودها في قطر واحداً من أكبر حجم وجود عسكري لأميركا في الخارج.

كل هذه العوامل ساعدت دولة صغيرة، بحجم قطر، على أن تكسر القاعدة، وتكون لاعباً دولياً مؤثراً في شؤون المنطقة.

قطر لا تمتلك القوة الناعمة وحسب، بل تمتلك القوة الذكية، والمتمثلة في قدرتها على استثمار ما لديها من قوة ناعمة، في تبني استراتيجيات ذات تأثير قوي لتحقيق أهدافها المرجوة. فليس من الذكاء أن تكون لديك إمكانات للقوة الناعمة، بل الذكاء هو في استثمار تلك القوة في ما يخدم مصالحك وتحقيق أهدافك، بحيث يجعل الآخرين يعملون لك ألف حساب. فقطر الصغيرة ما عادت كذلك، فهي اليوم نمر ذو أنياب تقارع بما لديها من قوة ذكية نمور الساحة العربية.

 

Email