الديمقراطية وربيع التغيير

ت + ت - الحجم الطبيعي

تسود حالة من التخبط وهشاشة الاستقرار لدى الشعوب العربية التي نجحت، ولو شكلياً! في الإطاحة بزعمائها السياسيين السابقين. حالة من التوتر بين فئات وطوائف ومكونات المجتمع الأساسية، بدأت تطفو على السطح، وتتعمق يوماً إثر يوم. لا غرابةً في ذلك فالديمقراطية المستوردة! أمر مستحدَث جديد لدى الشعوب العربية لدرجة الغرابة، وتحرك هاجس الخوف والتحسب لدى البعض. واقعياً، تحتاج الشعوب وحكامها الجدد فترة من الزمن قد تقصر أو تطول، قبل توطيد أسس الديمقراطية الخاصة بشعوب المنطقة، بشكل جماعي أو كل على انفراد.

النسبة الأكبر من الشعوب فرحة بانتهاء عهود طويلة من حكم الفرد أو الحزب الواحد، تميزت بالاستبداد والطغيان، وتُوّجت أخيراً باستشراء الفساد. لكن وعلى الرغم من تخلفها في مختلف الميادين، فلقد لاقت الأنظمة السابقة قبولاً عاماً لدى شريحة لا بأس بها من المجتمع. اضطرت الغالبية الأكبر من الشعوب المسحوقة للجوء للثورات والتغيير مهما كلّف الثمن؛ الثمن باهظ جداً، ودرب الديمقراطية يعج بالمخاطر.. تقريباً الأوضاع العامة لا تزال تراوح مكانها.

القلاقل الطارئة أشكال وألوان وأنواع؛ منها ما يعتمد على الطبيعة العقائدية والطائفية للمجتمع، ومنها ما هو ديمغرافي قديم جديد. تستعر نار الطائفية والمذهبية في بعض النقاط، بسبب استمرار غياب حكم ديمقراطي سليم عادل ونزيه. حكم لا يعير اهتماماً للاختلافات الدينية والمذهبية والعرقية، والتاريخية الزمنية، على المواطنين الأصل والقادمين فيما بعد. مثلاً، لم تزل للطائفة ومرجعيتها الكلمة الفصل لدى بعض الحكام السياسيين، وذلك ما يبقي الشعوب والبلاد رازحةً في المربع الأول لمرحلة التغيير. انتكاس العمليات السياسية يهدد بالعودة بالشعوب لتفضيل حكم الدكتاتوريات، على ديمقراطية الفوضى والدم وانعدام الاستقرار والتعايش السلمي بين شرائح المجتمع.

مضت فترة ليست بالقصيرة على الإعلان عن انتهاء عهود الدكتاتورية، في كل من تونس وليبيا ومصر واليمن والعراق. هذه البلاد تصطلي وبدرجات متفاوتة، بنيران الفتن والقلاقل والنزاعات والحروب الأهلية؛ إضافةً إلى استشراء ظاهرة الفساد والمحسوبية، وانهيار البنيات الخدمية. منذ البداية كان يجب وضع خطة أو مخطط، لتهيئة الأوضاع العامة في اتجاه توطيد الديمقراطية الحقيقية. عمليات التغيير من الضخامة والاتساع بمكان، بحيث لا مكان للارتجالية والهوجائية، والاعتماد على القوى الخفية لتدارك العواقب والنتائج.

فور نجاح ربيع التغيير في بلد ما، بات على الشعب اختيار قادته بناءً على الكفاءة والتميُّز في القدرات. يُختار الحاكم بناءً على قدرته على إرضاء ما يمكن من أبناء الشعب الذين يحكمهم. عليه أن لا يلتصق أو يلتزم بتعاليم طائفة أوفئة بناء على غالبية عددية حقيقية أو مزعومة، أو بناء على نقاء عقائدي حقيقي أو مزعوم. الشعوب ليست معنية بطائفة ومذهب وديانة من يحكمها، بقدر ما يتمتع به ذلك الحاكم من كفاءة وعدالة ومقدرة على التفاهم مع الجميع. على الحاكم الجديد أن يكون مصاباً بـ"عمى ألوان حقيقي"، في ما يخص الطوائف والفئات التي يحكمها.

الديمقراطية ليست وجبةَ طعام أو درساً أو فصلاً في كتاب، أو مجموعةً من الخطابات المتلفزة أو المقالات الصحافية. إنها منهجية مبنية على عملية كاملة متكاملة، متعددة الجوانب والأبعاد والمراحل. هي تجربة ومنهجية وأسلوب حياة، يُمارس على طبقات الشعب المختلفة. الديمقراطية بحاجة لوقت ليس بالقصير، لتتوطد في أركان المجتمع المختلفة، تُراعى فيها الشؤون النظرية والتطبيقية، وعمليات اختيار الكفاءات والأشخاص المناسبين في الأمكنة المناسبة لهم. باتت الشعوب العربية بحاجة أكثر من أي وقت مضى، إلى ربيع تغيير آخر لإصلاح وتقويم ما أحدثته موجة الربيع العربي حتى الآن. الطائفية والقلاقل العرقية والديمغرافية، تتأجج ويتم استغلالها من أعداء الداخل والخارج للسيطرة على مستقبل ومقدّرات البلاد والعباد.

الطاقات العربية تُستنزف ولا يوجد من يحاول تجميعها بطريقة بنّاءة، للسير بالشعوب إلى الأمام بخطوات حثيثة وثابتة. لا بل تستمر قيادات الطوائف في خلق حالات من الجُرف فيما بينها، مما يبقيها على شفا حفرة الحروب الأهلية المزمنة؛ كل طائفة تريد الديمقراطية على هواها. ذلك ما يهدد بتشرذم الدول العربية التي يأتي عليها ربيع التغيير، وتحويلها لدويلات طائفية متنازعة متناحرة.

 

Email