أيام الفلسفة في الجزائر

ت + ت - الحجم الطبيعي

للفلسفة يومها العالمي كما تحتفي بها اليونيسكو، كل عام، في 22 نوفمبر، وفيه تقام ندوات فكرية في غير عاصمة أو بلد. ولكن الجزائر تحتفي، بهذه المناسبة، على طريقتها، إذ خُصص "يوم وطني" للفلسفة يقام في 25 من شهر إبريل/ نيسان، وقد شهدت دورة هذا العام حراكاً ثقافياً واسعاً وكثيفاً نُظّمت خلاله ندوات وملتقيات في غير مدينة، حول عدد من القضايا الفلسفية والمشكلات الراهنة.

وهذا سَبْقٌ يُسجَّل للجزائر، لأن مثل هذا الحراك الاستثنائي، من أجل الفلسفة، على المستوى الوطني، قلّ نظيره، لا في البلدان العربية، ولا حتى حيث تزدهر الفلسفة في أوروبا.

كنت من بين المدعوين للمشاركة في هذا المهرجان، وكانت لي كلمة مكتوبة، معدّة سلفاً، فضلاً عن عدد من المداخلات واللقاءات الحيّة والمباشرة مع الطلبة في غير مدينة.

المداخلة الأولى كانت في مستغانم (أصلها مسك الغنائم)، وهي مدينة ساحلية لها خصوصيتها وفرادتها وجمالها، وكان موضوعها إشكالية الجسد في الخطاب العربي والإسلامي. والجسد ليس مشكلة بذاته، لأنه معطى وجودي، أي كائن واقع أو أحد الخلائق. باختصار، إنه الأصل والمبتدى.

أما الإشكالية فإنها تكمن في طريقة التعامل معه، أو في الافكار التي نكونها عنه. ولذا حاولت في مقاربتي الربط بين الجسد وما عداه من الأشياء والمفردات التي يمكن أن تنسج علاقة بينه وبينها، كالروح والنفس والذات، أو الحجاب والعورة والمتعة والإباحة... من هنا يتردّد الجسد في الخطاب العربي، الفلسفي والديني، بين الكشف والحجب، بين العورة والجنّة، بين الحظر والإباحة، بين الانتقاص من كينونته وبين رعايته والحرص على حقوقه.

وخلاصة ما قلته؛ إذا كان لكلمات مثل ذات أو نفس أو روح معانيها، فهي ما نبنيه من علاقات بأجسادنا، أي شكل حضور الجسد ونمط تصوره، أو أسلوب تحريكه وتشغيله، أو طريقة سوسه وتدبّره. قد نتعامل مع الجسد كنتاج طبيعي أو برنامج وراثي، كما في العلم الطبيعي، أو كشبح وعرض كما في المذهب المثالي، أو كسلعة كما في الترويج الإعلاني...

فهذه كلها أشكال من الحضور وأنماط من التحقق والتدبر، تختلف باختلاف العصور والثقافات والبيئات والتقنيات. فلا حضرة من دون الجسد. وأياً كان شكل التحقق، فللجسد قوته وجماله وسره، كأي شيء آخر، فإذا حاولنا نفيه أو احتقاره أو تعسفنا في التعامل معه، فإنه يرتد علينا وينتقم منا، كما تنتقم الطبيعة من البشر اليوم. لنتواضع، بحيث نعترف بدنيويتنا ودونيتنا، إذا أردنا أن نحسن الإقامة على هذه الأرض.

بعد مستغانم ذهبت إلى تلمسان، عبر الأوتوستراد العريض الذي دُشّن حديثاً، والذي يخترق الجزائر من الشرق إلى الغرب. وهذه هي المرة الثانية التي أزور فيها هذه المدينة الهادئة، المدهشة، الجميلة، التي أجدها كفردوس قياساً على مدينة بيروت التي يطغى فيه الحجر والإسمنت. ولكن جسدي خذلني في تلمسان، إذ ألمّت بي وعكة صحية، مما اضطرني لإلغاء اللقاء المقرّر في اليوم الأول.

ولكني في اليوم الثاني استجمعت قواي، وكان لقاء مع الطلبة في قسم العلوم الاجتماعية، تحدثت فيه عن الثورات العربية التي فجّرها الشبّان والشابات من الناشطين والمدوّنين، لأقول بأنها أحداث استثنائية خارقة غيّرت المعطيات وقلبت المعادلات، بقدر ما فتحت إمكانات خصبة للتفكير والتعبير والتغيير. فهي حرّرت النُخب الثقافية من دعاة الحرّية، من أوهامهم الايديولوجية. وهي غيّرت الإسلاميين بقدر ما فتحت أمامهم الباب للوصول إلى السلطة. وأخيراً ففي هذه الثورات شاركت المرأة على قدم المساواة مع الرجل، وربما ستُسهم في تحريره من عقده وضعفه وادّعائه.

في تلمسان، كما في مستغانم لفت نظري، بل أدهشني وجود مدينة جامعية فائقة الحداثة، أقيمت على أرض فسيحة، لكي تشكل عالماً قائماً بذاته، من بيوت الطلبة إلى قاعات الدرس، ومن المخابر العلمية إلى المدرجات الواسعة، ومن مقر الرئيس أو العمداء، إلى المباني التي تضمّ الكليات والأقسام والشُّعب. ويبدو أن هناك خطة لتعميم مثل هذا النموذج على مختلف مدن الجزائر.

بعد ذلك أعود إلى مدينة وهران لكي أشارك في ندوة حول الفلسفة والعلم، وكان حديثي حول التغير الذي طرأ على الحقل الفلسفي من جميع الوجوه، سواء من حيث الموضوع والمادة، أو المنهج والطريقة، أو اللغة والكتابة، فضلاً عن العدة والممارسة.

وتوقفت عند التمييز الذي أقيمه بين نقد العقل ونقد النص. فنقد العقل يقوم على منطق المماهاة والتطابق، ويشتغل بمفردات اليقين والقبض والتحكم، أو بثنائية الصح والخطأ، أو العقلاني والظلامي، في ما يخصّ تعامله مع النصوص التراثية. وفي نقد النص يختلف الأمر، إذ النص يتعدى صاحبه، كما يستعصي على الاختزال والتصنيف. من هنا يقرأ قراءات مختلفة، وكل قراءة حية أو خصبة تحيي النص وتجدد المعرفة به، بقدر ما تغني المعرفة.

بعد وهران ذهبت إلى مدينة "سعيدة"، لكي أشارك في يوم الفلسفة هناك. وسعيدة تقع على أبواب الصحراء، إذ هي تبعد 167 كلم عن وهران.

من هنا افتتحت كلمتي بالقول: لسان حالي كما قال ذلك اليمني قديماً "لا بد من صنعاء وإن طال السفر"، أي لا بدّ من سعيدة وإن نأتِ المسافة.

كانت الندوة حول الفلسفة والممارسات الثقافية، وأنا فهمت عبارة "الممارسات" على غير ما فهمها المنظّمون، إذ هم تحدثوا عمّا أسميه النتاج الثقافي كالمسرح والفن والترجمة. أما الممارسات فهي تتعلق بسير المثقفين وتصرّفاتهم؛ علاقاتهم في ما بينهم، روابطهم واتحاداتهم، ثم علاقاتهم بالناس وبقية القطاعات، أي تتعلّق بالمجتمع الثقافي. وأشرت إلى الندوات الفكرية التي يعقدها المثقفون، والتي تحتاج لتطويرها، إلى فتحها على العاملين في بقية الحقول والقطاعات.

أختم بأمر كان مثار تساؤل قبل مجيئي إلى الجزائر، وهو هل يشهد هذا البلد ثورة على غرار ما حصل في غير بلد عربي؟

ما تبيّن لي أن الجزائر تسير في طريق الإصلاح، وحسناً تفعل. لأن الثورة ليست مطلوبة لذاتها، وإنما تحصل في حالة الإحباط والانسداد. ولكن المجتمع القادر على إصلاح أحواله وتدبر شؤونه أو حل مشكلاته وتحسين أحواله، لا يحتاج إلى ثورة.

 

Email