المناظرات الرئاسية.. ما لها وما عليها

ت + ت - الحجم الطبيعي

كنت أترقّب المناظرة التلفزيونية بين أبرز مرشحين للرئاسة في مصر، الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح والاستاذ عمرو موسى. كانت المناظرة ناجحة، بقدر ما كانت عملاً لا سابق له. لقد فرحت لمثل هذا السبق الإعلامي الذي هو حدث استثنائي، بقدر ما هو مكسب ديمقراطي.

ولا مبالغة في التوصيف؛ أن تحدث مناظرة على هذا المستوى الرفيع، فذلك فتح ديمقراطي ونقلة سياسية نوعية في مجتمعات عربية اعتادت على تحويل الأنظمة الجمهورية إلى ملكيات وراثية. قد يقال إن المناظرة شابتها عيوب وأخطاء، وهذا مما لا ينكر. ولكن يكفي أن تحصل بذاتها، حتى تشكل حدثاً أو إنجازاً. لقد نجح الذين فكروا فيها في التحدي الحضاري، ولذا لا ينبغي أن نبخسهم حقهم من التقدير.

وهذا ما يحملني على القول للمعترضين عليها، ممن نظروا إليها بعين السلب، أن لا يكونوا طوباويين مثاليين، كي لا يكرروا تجارب الأجيال السابقة من دعاة التحرر والتقدم والحداثة، ممن كانوا ينفون الوقائع لكي تصحّ أوهامهم، أو يغرقوا في أحلامهم الفردوسية لكي تترجم بعكسها على أرض الواقع الحيّ والمضطرم بالتعقيدات والالتباسات والمفارقات. لنقرأ جيداً ما يحدث، بحيث نشير إلى الخطأ لتجاوزه، ونعترف بالمكسب أو المنجز لنبني به أو نعمل على تطويره والإضافة عليه.

أنتقل من ذلك إلى المضمون، وأتوقف عند سؤال وُجّه إلى كل من المتنافسين، أعتبره السؤال المفصلي والمحرج في آن: علاقة الدين بالدولة. وقد لاحظت أن المتنافسين أجمعا على القول بأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع في مصر.

وفي رأيي أن مثل هذه الإجابة تبسط وتختزل، ولا تحلّ المشكل، بل تزيده تمويهاً وتعقيداً، إذ هي تقفز فوق الواقع ولا تحسن قراءة المتغيرات التي طرأت على المجتمعات العربية، منذ أن انخرطت، منذ زمن، في العالم الحديث وتبنّت بعض مفاهيمه وقيمه ونظمه في بناء الدول وتشكيل المجتمعات.

ومع ذلك لا أقول بأن الإسلام دين لا دولة، كما يردد بعض الحداثيين، العلمانيين أو الليبراليين، الذين يعتقدون أنهم بذلك يدحضون حجة الإسلاميين الذين يؤكدون العكس، بطرحهم شعارات الدولة الدينية أو الحاكمية الالهية أو الحكومة الإسلامية. من يفعل ذلك يقف على أرض الأصوليين، ويخسر معركته مهم قبل أن تبدأ.

ما أراه أن الإسلام، وبحسب قراءتي لتاريخه، كان ديناً ودولة، إذ هو لم يكن مجرد عقائد أو طقوس وفرائض، بل شرائع وأحكام استندت إليها الدولة واستمدت منها مشروعيتها. ولكن لا سبيل للعودة إلى ما مضى، ليس فقط لأن الشريعة، كما يفهمها هؤلاء، يستحيل تطبيقها اليوم، بل أيضاً، وخاصة، لأن الإسلاميين غير مؤهلين ولا هم قادرون على ذلك. وهم بذلك يحملون الدين ما لا طاقة له على حمله، فيسيئون إليه وينتهكون مبادئه وتعاليمه.

ومع ذلك لا يظن أن الإسلاميين يتماهون مع السلف ويطبقون الأصول، لأن الماضين كانوا أعقل وأكثر تواضعاً، إذ هم أقاموا فصلاً بين الحكام والعلماء، ولم يسموا الدول باسم الإسلام، بل باسم القائمين عليها. أما الإسلاميون المعاصرون فإنهم أقل تقًى وأكثر ادعاء، إذ هم يريدون الجمع بين السلطتين الدينية والسياسية، لكي يمارسوا استبداداً مضاعفاً.

والأهم أن هاجسهم ليس تطبيق أحكام الشريعة، لأنهم يتناسون الأهم والأساس في العمل الديني، كما يتمثل في جماع القيم والفضائل: التقى، التواضع، التواصل، التعارف، التكافل، التراحم... لأن ما يحركهم هو جوع فتاك للوصول إلى السلطة والمحافظة عليها بأي ثمن، ولو بنسف الثوابت والانقلاب على المبادئ. أكثر من ذلك، أن محاولات العودة إلى المرجعية الدينية، لبناء المجتمعات وصناعة الحياة، قد أيقظ الذاكرة الموتورة وحرك الفتن النائمة، ليفتح نفق الحروب الأهلية الدينية والطائفية.

من هنا فإن مطلب الدولة المدنية، العلمانية، المحايدة، التي لا تتبنى عقيدة طائفة مخصوصة أو مذهب معين، والتي تنهض على أسس المواطنة الجامعة والهوية الوطنية العابرة، لم تعد ضد الدين، كما كان يظن، بل باتت حاجة ملحّة لوقف الفتن داخل المجتمعات ذات التعدد الطائفي والمذهبي.

إن التحدي أمام الأحزاب الإسلامية التي وصلت إلى السلطة، لا بالاستناد إلى الشريعة ومؤسسة الشورى، بل بالانتخابات الديمقراطية المستفادة من التجارب الغربية، هو الاعتراف بالمنجزات الحديثة التي باتت قيماً كونية جامعة، كالشفافية، والتعددية، والديمقراطية، من أجل استثمارها والعمل على تطويرها والإضافة عليها.

أما إذا تصرفوا كمنظّرين عقائديين ودعاة لتطبيق الشريعة، فإنهم سيفشلون ويفتضح أمرهم، سريعاً، أو يسطون على منجزات المجتمعات الغربية الحديثة لنسبتها زوراً إلى الإسلام. هذا ما يفعله بعض المرشحين الإسلاميين للانتخابات الرئاسية، الذين ادعوا أنهم يتحدثون عن المرجعية الإسلامية لمشروع النهوض الحضاري، فيما كل أفكارهم حول التحديث والتطوير والإنماء، مأخوذة من المفكرين المعاصرين، من عرب وغربيين.

خلاصة القول؛ لا تغيير تحت أي شعار كان، من دون ابتكار الجديد والملائم والفعال من الرؤى والمفاهيم والنظم والوسائل. وهذا ما افتقرت إليه المناظرة بين المتنافسين في مصر. وما دام الشيء بالشيء يذكر، فهذا أيضاً ما افتقرت إليه المناظرة بين المرشحين للرئاسة في فرنسا، الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، والجديد فرانسوا هولاند، مع الفارق بين الحالتين، لما يملكه الفرنسيون من تاريخ عريق وخبرات طويلة، سواء من حيث التمرّس بالعمل الديمقراطي أو من حيث بناء نموذج كان الأفضل أوروبيا في ما مضى.

ومع ذلك فقد وقع ساركوزي وهولاند في فخ الأرقام، واستغرقا في المسائل الاقتصادية والمحلية، فخلت المناظرة من الرؤى الثقافية والتخييلات الخلاقة، ولم تتطرق إلى التحولات الكبيرة التي يشهدها العالم، مع بروز لاعبين جدد ونجاح نماذج جديدة في التنمية.

وهناك شبه بين الفرنسيين والعرب في هذا الخصوص؛ فالأولون ناموا على فكرة كونهم يشكلون استثناء في أوروبا، فتراجعوا بعد أن استهلك نموذجهم في العيش، ولعلّ هذا أحد الأسباب العميقة للأزمة في فرنسا. أما العرب فقد ناموا على فكرة الاصطفاء، أي اعتقادهم بأن الله قد اصطفاهم ليبلّغوا العالم آخر رسائله.

لقد آن للمجتمعات العربية أن تتحرر من هذه العقدة، لكي تحمل المسؤولية عن نفسها وتقود مصائرها، لتغير واقعها وتصنع مستقبلها، بابتكار نماذجها في الحكم والتنمية وإنتاج المعرفة.

 

Email