سلاح الهوية والشريعة

ت + ت - الحجم الطبيعي

من المفارقات أنه مع انفجار وسائل الاتصال وتعاظم حركة الانتقال والتبادل، على المستوى الكوكبي، يزداد تشبّث الجماعات بخصوصياتها اللغوية والعرقية أو الدينية والطائفية، الأمر الذي يحول الهوية، أكانت تخص أكثرية أم أقلية، إلى مصدر للتوتر والاضطراب، كما تشهد بذلك الحروب الأهلية والفتن المذهبية في غير مكان من العالم، وبالأخص في المجتمعات العربية.

هذا ما يشهده أيضاً بعض الدول الأوروبية من التوترات والنزاعات بين سكان البلاد الأصليين، الذين هم في غالبيتهم مسيحيون، وبين المسلمين الوافدين الذين استوطنوا في تلك البلاد وارتضوا العيش فيها، بعد أن حصلوا على جنسية أهلها.

من هنا تثار بين الفترة والفترة، المناقشات وتحتدم السجالات حول هذه القضية أو تلك، من مسألة الحجاب إلى الذبح الحلال، ومن إظهار الرموز الدينية إلى بناء المآذن وإقامة الصلوات على الأرصفة وفي الشوارع. وهذا ما حصل، مؤخراً، بعد تصريح وزير الداخلية الفرنسي كلود غيّان، حول "عدم تكافؤ" الحضارات، من حيث موقفها من القيم والحريات واحترامها لحقوق الإنسان.

واللافت في بلد كفرنسا أتابع المناظرات الدائرة فيه، حول مسائل الهوية والاندماج الوطني أو حول وضعية المرأة المسلمة، أن الفرنسيين لا يقفون صفاً واحداً أو في جبهة موحدة، في حربهم الكلامية على ما يعترضون عليه أو ينتقدونه في الدين الإسلامي أو لدى المسلمين الفرنسيين.

بالطبع هناك فريق متعصب، متطرف. ولكن هناك، في المقابل، أناس يتعاملون مع المسلمين الفرنسيين بوصفهم شركاءهم في المواطنة، ولذا نراهم ينخرطون في المناقشات بعيداً عن أي منزع عنصري أو إقصائي. ففي مسألة الهوية، مثلاً، نجد كُتاباً ومعلقين، يعتبرون أن كل من يحمل الجنسية الفرنسية هو فرنسي.

ولا داعي لنبش تاريخه أو التنقيب عن أصوله للتأكد من هويته أو ولائه لبلده. وفي قضية المرأة، نجد كاتبات فرنسيات يواجهن الحملة التي يشنها البعض على الإسلام، بسبب ارتداء البرقع، أو بسبب ما يعتبرونه دونية المرأة، بالاعتراف بأن المرأة لا تزال تعاني من التمييز والإقصاء، بل الاضطهاد، في فرنسا وفي المجتمعات الغربية عامة.

في المقابل، لا نجد في البلدان العربية، إلا قلة نادرة، تناقش المسألة بهدوء وروية ومن غير تحيز أو تهجم. فالأكثرية الساحقة يحركها هاجس الدفاع عن الهوية، بصورة عمياء. وهذا ما أتجنبه من جهتي منذ زمن، فأنا لا أقف موقف الدفاع عن هويتي الجمعية، كما لا أتماهى مع المسلمين الأوروبيين الذين يطالبون لأنفسهم بحريات وحقوق لا تراعى في معظم البلدان الإسلامية.

انطلاقاً من هذا الموقف، أنا أتماهى مع الفرنسي أو الأوروبي الذي يقف موقف الناقد لهويته، لا من أجل أن يتخلّى عنها، بل لتوسيع الإمكان، بحيث يمارس الواحد خصوصيته واختلافه بالانفتاح على الآخر، عبر إتقان لغة الحوار والتداول والتبادل، سيما إذا كان شريكه الذي لا انفكاك له عنه.

من غير ذلك تتحول الهوية إلى مشكلة لأصحابها، كما تشهد الصراعات الدموية بين أتباع الطوائف والمذاهب عندنا، وكما تشهد تصرفات بعض المسلمين الأوروبيين الذين يثيرون الفزع في نفوس مواطنيهم، كأولئك الذين اقتتلوا بشراسة في جامع أوسلو في النروج منذ سنوات، أو الذين يريدون ممارسة الأحكام والفرائض والطقوس في بيئاتهم الجديدة والحديثة، وكأنهم ما زالوا يعيشون في البادية أو الصحراء.

لنعترف بالواقع، من غير مكابرة أو معاندة؛ ثمة عدم تكافؤ بيننا وبينهم على الصعيد الحضاري والمدني. ففي فرنسا بالذات كسرت الدولة، في عهد الرئيس ساركوزي، الذي يشرف على نهايته، منطق الإقصاء للآخر أو للمرأة، بالإتيان بوزيرات مسلمات من أصول مغاربية؛ ما يحصل عندنا هو العكس، كما تصدمنا المشاهد الوحشية للمجازر والمذابح التي تجسد منطق الاستئصال العنصري الطائفي أو السياسي، للشقيق أو للشريك الذي لا يرضى بالذل والعبودية.

وهكذا، ففي أوروبا يمارسون حرية التفكير وحق النقد للسلف والتراث والكتب المقدسة، فيما السائد عندنا هو رفع سيف التكفير من قبل حراس النصوص وشرطة العقائد. ومع ذلك لا أقول بأن هناك تراتباً بين الثقافات، بل هناك تفاوت بين الناس، إذ لا يستوي الذي يمارس هويته بلغة الانفتاح والاعتراف والتبادل، مع الذي يعتقد بأنه الأحق والأصدق والأشرف والأفضل بين الناس، عنصراً ومعتقداً أو مكانة...

وهكذا تحولت الهوية، في عصر الهويات العابرة والجنسيات المتعددة والإقامات المتنقلة، سلاحاً يشهره حراس العقائد وحماة الخصوصيات، لتهديد وحدة الأوطان وتمزيق المجتمعات.

وذلك يدعو إلى تفكيك هذا المفهوم، لإعادة بنائه على وقع الأزمات، وفي ضوء المتغيرات، وذلك بالكشف عما ينطوي عليه من وجوه الحجب والخداع والتضليل، الأمر الذي يحوّله إلى أداة لإنتاج ما تعاني منه مجتمعاتنا من التفكك والعنف والخراب.

وفي طليعة ذلك ما يتعلق بالمرأة وحقوقها، ودورها في المجتمع. وإذا كانت المرأة قد حققت مكاسب كثيرة على صعيد القوانين، فما زال أمامها الكثير على صعيد الممارسات الاجتماعية والسياسية، حيث السلطة الذكورية، المرتكزة إلى الثقافة الأبوية، إنما تلتف على القانون وتبتلع أحكامه. ليس عندنا فحسب، بل في فرنسا وفي غيرها من البلدان الأوروبية.

ولا شك أن اندلاع الثورات العربية، فتح الباب واسعاً أمام النساء لممارسة حريات التعبير والانخراط في الأنشطة السياسية الميدانية. ففي غير بلد شهد انتفاضة، كانت المرأة تتحرك وتنشط وتبادر.

وتتحدث وترفع الصوت عالياً، ولو من وراء الحجاب. ومع ذلك ليست أوضاع النساء وردية، فالسلفيون هم بالمرصاد، لكي يلتفوا على الحقوق ويصادروا الحريات، سيما بعد أن فاز الإسلاميون بالانتخابات، وشكلوا الأكثرية في البرلمانات. من هنا سارع البعض إلى الإعلان عن تطبيق أحكام الشريعة، وهذا داعية سلفي تونسي يطالب، بصورة صريحة، بأن يكون "لكل مواطن الحق في اتخاذ جارية له".

هكذا يكافئ السلفي المرأة التي شاركت في تفجير الثورة، وساهمت في فتح باب الحرية أمام الرجال: الإطاحة بكل مكتسبات الحداثة من الحرية والحقوق؛ وهو بذلك لا يفعل سوى أن يطبّق شرع الله، كما تساق الحجة لدى الذين يُشهرون سلاح الشريعة والهوية.

من هنا فإن جماعات الإسلام السياسي، ممن أعلنوا قبولهم بالدولة المدنية، التعددية الديمقراطية، الحديثة، هم الآن أمام التحدي، إذ لا سبيل لإدارة الدول وبناء المجتمعات في هذا العصر، بعقلية الماضين ونماذجهم ورؤاهم، إلا بصورة هزلية كاريكاتورية أو عدوانية وحشية، تسيء إلى الإسلام وتشهد على إخفاق أهله.

أياً يكن، نحن على المحك.. هل نحول الدين إلى عصاب أو داء لكي نعيد إنتاج أزماتنا، أم نعمل على افتتاح إمكانات وآفاق جديدة للحياة، تحتاج إلى ابتكار الجديد من العناوين والنماذج أو النظم والتشريعات؟

 

Email