هوّة التاريخ أم فجوة الوجود؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

ربما أخذ عليّ البعض أنني استعجلت في الحديث عن كتاب المؤرخ والفيلسوف مارسيل غوشيه، حول الأنظمة الشمولية التي شهدتها أوروبا، مع ظهور النازية والفاشية والستالينية.. خاصة أن الكتاب هو من العيار الثقيل، كما وصفته من قبل، ويحتاج إلى قراءة متأنية..

ومسوغي في تعليقي أنني تحدثت أولاً عن مزايا الكتاب، بحسب ما تتيحه الكتابة في الصحافة اليومية، ورجعت ثانياً إلى الحوارات التي أجريت مع المؤلف، وهي ليست قليلة الأهمية، إذ نجد فيها عصارة ما أراد الرجل قوله. كما أنني أردت، من جهة ثالثة، التعليق بشكل خاص على الدرس الذي استخلصه غوشيه من مجريات القرن العشرين، سواء في ما يخصّ الأنظمة الشمولية أو الأنظمة الديمقراطية.

ففي كلا المعسكرين، تشهد الأزمات والانهيارات والتحولات، على جهل الفاعلين من أصحاب المشاريع الكبيرة بما يصنعونه، بقدر ما تشهد على أنهم لا يحكمون السيطرة على المجتمعات التي يريدون قيادتها أو تغييرها أو الحفاظ عليها. والدليل هو أن ما يحصدونه من النتائج، يُخالف في أغلب الأحيان ما خططوا له، أو سعوا للوصول إليه.

 فالأنظمة الشمولية التي ادّعت امتلاك الحلول للأزمات، لم تخلف سوى الكوارث والخرائب، فيما الأنظمة الديمقراطية، التي هي أصلاً غير ثورية، أحدثت تغييرات سياسية جذرية، ومن حيث لا تحتسب. وأنا أوافق غوشيه على هذا التوصيف.

كما أعبر عنه بلغتي وصياغاتي المختلفة: جهل المثقفين المرُكّب بالنفس والآخر والعالم، انتهاك المبادئ على يد حماتها، ارتداد الأعمال على أصحابها، ترجمة الشعارات بأضدادها... ولكني أفترق عن غوشيه، من حيث تشخيص العلة في غير مسألة:

الأولى: أنني لم أكن أحتاج إلى دراسات وأبحاث طويلة تجوب التاريخ الأوروبي، بالطول والعرض والعمق، لكي أصل إلى ما وصل إليه. كان يكفيني، منذ أن اندلعت الحرب في لبنان، أن أتأمل ما نعاني ونكابد، أو أن أنظر في مصائر المشاريع التحريرية أو التغييرية في العالم العربي، أو أن أنظر في الأزمات العالمية المتلاحقة، كي أصل إلى نفس النتيجة التي خلص إليها غوشيه، وربما قبله.

الثانية: أنني لا أشخص المشكلة بردها إلى ما سماه غوشيه «هوة» التاريخ أو سخريته. فالكلام على الهوّة هو من قبيل السحر، أو على الأقل لا يحلّ اللغز ولا يكشف العلّة. فما أراه أن المشكلة، كما تتجسد في الجهل أو العجز أو الإخفاق، مردها إلى عطل بنيوي تكويني، أصله تناهي الإنسان ومحدودية العقل، أو طيّات الفكر وعتماته. فالعقل لا يحكم العالم كما ادعى هيغل أو ماركس، إذ هو لا ينفك عن أوهامه وخرافاته وتعمياته وتشبيحاته؛ تماماً كما أن في كل ما نفكر فيه ونبرهن عليه أو ندعي العلم به، جانباً غير مفكر فيه أو مسيطرٍ عليه، يبقى طيّ الكتمان أو في دائرة العتمة، مما هو دفين أو مطمور أو مكبوت أو ملتبس أو مراوغ أو مفخّخ..

هذا بالنسبة إلى مسألة الجهل، أما بالنسبة إلى العجز أو الإخفاق، فمردّه إلى المزاعم التي تجعل أصحابها يطلبون المستحيل، بقدر ما يدرجون مشاريعهم وبرامجهم تحت خانة المطلق والمقدس والثابت والكامل والنهائي.. ومن هذا شأنه لا يحسن سوى انتهاك ما يدعو إليه، إذ لا يوجد على الأرض سوى النسبي واليومي والمتعدد والمتغير والمستهلك والنافل والزائل...

الثالثة: هي أن ما تكشفت عنه المشاريع الشمولية من العجز والجهل والإخفاق، ليس ظاهرة عارضة، وإنما هو سمة بنيوية كيانية من سمات الوضع البشري، حيث هناك فجوة دائمة بين المبادئ والمقاصد، بين المقولات والممارسات، بين الادعاءات والمآلات.

هذه الفجوة الوجودية، هي ما يفسر لنا كيف أن أعمالنا ومساعينا تفاجئنا أو تصدمنا بمفاعيلها وآثارها وتداعياتها، غير المحسوبة أو المحتملة، سلباً أو إيجاباً، أي ما تولده من المساوئ والمخاطر والكوارث، أو بالعكس؛ ما تفتحه من الفرص والأبواب والإمكانات، للتركيب البناء والاستثمار الإيجابي والفعال.

والأزمات التي تعصف اليوم هي شاهد ناطق على ذلك، وإلا كيف نفهم أن تحدث الانهيارات المالية، مع حشود العلماء وترسانة النظريات والتقنيات الفائقة من الحواسيب والشبكات؟

وتلك هي محنة المعنى التي تحملني على إعادة النظر في مفهوم الإنسان، كما أصوغ ذلك من خلال مقولة «الإنسان الأدنى»، فنحن أدنى شأناً بكثير ممّا ندّعي، سواء من حيث علاقتنا بالمبادئ والقيم والمثل، أو من حيث قدرتنا على السيطرة والتحكم في الأهواء والأشياء والأحداث.

وهكذا، فنحن محكومون بقدر ما نعجز عن توقع ما لأعمالنا من الآثار السلبية أو المدمرة. والدرس المستخلص من هذا العجز البنيوي أو الجهل الأصلي، هو خفض سقف المتعاليات والمقدسات، للعمل بمنطق التسويات والمصالحات ومعالجة ما يتكشف عنه الواقع على الدوام، من الصدوع والانكسارات أو الفجوات والفراغات. وقد أجرت مجلة «إسبري» الفرنسية، في عددها لشهر ديسمبر/ كانون الأول 2010، حواراً مع الفيلسوف بول فيريليو، الذي هو من أبرز من يؤلف حول الشأن المديني في ضوء التحولات التقنية، وفيه يتحدث عن بعض معلمي الفكر الذين كان يحضر دروسهم، مميزاً بين نموذجين:

الأول يجسده مفكر فرنسي من أصل روسي، هو فلاديمير جانكليفيتش (1903- 1985)، وكان يتحلّى بالتواضع، بحيث إنه لا يخشى، بعد انتهائه من إلقاء محاضرته، من الاعتراف بجهله أمام الحضور، قائلاً: «هذا ما استطعت قوله الآن، قد أفعل أحسن من ذلك في المرة المقبلة». ولذا كان يفتح المجال أمام الجمهور للحوار والمناقشة وتبادل الرأي.

أما النموذج الثاني فكان يمثله فيلسوف ذائع الصيت، هو ميشال فوكو (1926-1984)، وكانت دروسه، كما يروي فيريليو، ذات طابع احتفالي أوبرالي. وكان إلى ذلك صاحب سطوة معرفية، تقوم استراتيجيته على الاستحواذ على الجمهور والسيطرة عليه إلى حدّ إرعابه. ولذا كان المستمع يشعر، بعد انتهاء فوكو من محاضرته، أن عليه أن يكتفي بالتصفيق، على سبيل الإعجاب، ولا يجرؤ على طرح الأسئلة، إذا لم يشأ أن يتهم بالحمق.

وأعتقد أن جانكليفيتش كان استثناء، وأما فوكو فإنه يمثل النموذج الطاغي. وفي هذا مثال على أن وراء خطاب الحقيقة تكمن حقيقة المتكلم، وقد أكد فوكو نفسه أن ما ألفه يدور حول تجاربه الوجودية، التي لا تبرأ من طابعها الشخصي والذاتي. ولعلّ هذا ما جعل فوكو يرجئ لسنوات، ردّه على الانتقاد الذي وجهه له نظيره جاك دريدا، وكأنه كان يأنف من السجال معه.

وفي ذلك شاهد بليغ على أنّ السجال بين الفلاسفة والعلماء والمشتغلين في ميادين المعرفة والثقافة، يتعدى أنظمة المعرفة نحو إرادة السيطرة، كما يتعدى رهانات المعنى نحو رهانات القوة.

 

Email