المصريون بين الرئيس المؤمن والديكتاتور

ت + ت - الحجم الطبيعي

ربما لم تشهد مصر عبر تاريخها الطويل الذي يمتد لآلاف السنين، مثل هذا الجدل الدائر حول اختيار الرئيس، مع ما يرتبط بذلك من تضارب معايير عملية الاختيار بين فصيل وآخر. فالمصريون يمرون الآن بحالة استثنائية وغير مسبوقة من الممارسة السياسية التي تحتم عليهم المشاركة في اختيار رئيس لهم، وتفرض عليهم هذا الكم الهائل من النقاش في الحياة اليومية.

 فمن الصعوبة بمكان ألا تجد اثنين من المصريين أو مجموعة منهم لا يتحدثون عن اختيار الرئيس القادم والمعايير المرتبطة بذلك. وربما لا يوجد حديث يتوحد حوله المصريون اليوم، مثل حديث الرئاسة والانتخابات والرئيس القادم لمصر.

وبغض النظر عن أسماء المرشحين للرئاسة وعمن استبعدتهم اللجنة العليا للانتخابات، فمن الملاحظ أن عملية الاختيار تتم وفقا لولاءات مسبقة، ترتبط بانتماءات سياسية وأيديولوجية ومصالح شخصية. ويعني ذلك أن غياب "خيرت الشاطر" لا يعني بالنسبة للناخب شيئا، طالما أن بديله الجاهز "محمد مرسي" ما زال موجودا، كما أن غياب "عمر سليمان" لا يعني بالنسبة للناخب شيئا طالما أن بديله أو المعادل له "أحمد شفيق" ما زال حاضرا. وربما كانت هذه المسألة صحيحة بالنسبة للمرشحين الكبار المؤثرين في ساحة الانتخابات المصرية الحالية، فيما عدا اثنين من المرشحين هما "عمرو موسى" و"حازم أبو إسماعيل".

ويمكن القول بأن أهم معيار لدى المصريين في اختيار الرئيس القادم، والذي يمثل القاسم المشترك في ما بينهم، يتمثل في البحث عن رئيس "عنده أخلاق"، وعلى حد قول رجل الشارع العادي "يتقي الله في شعبه". فالمعيار الأساسي للاختيار يمزج بين الجانب الديني والأخلاقي؛ ففي ضوء ما تعرض له المصريون في العقود السابقة من فساد وإفساد هائلين، فإن إيمان الحاكم ومدى قربه من الله، يمثلان أهمية جوهرية بالنسبة لهم الآن، بغض النظر عن طبيعة الولاءات السياسية والأيديولوجية.

ويجد المرء تعبيرات عديدة يستخدمها المصريون تتعلق بالأمانة والشرف والقرب من الله والصلاة، بل إن البعض يصل به الحال لتقييم الرئيس من خلال الصلاح الذي يشع من وجهه، والنور الذي يتخلله، ناهيك عن اللحية وطولها وتاريخه في العمل الإسلامي. ولا يشترط الناخب أية مواصفات أخرى، مثل الخبرة السياسية والمناصب السابقة والعلاقة بالعالم الخارجي وصغر السن، أو أية مواصفات أخرى يراها ضرورية ويتطلبها هذا المنصب السياسي الكبير في دولة بحجم مصر.

إن غياب أي قدر من الممارسة السياسية الديمقراطية في ظل النظام السياسي القمعي السابق، قد قزّم الأطر السياسية التي يمكن أن تقدم بدائل عديدة للمشاركة، بما ذلك العمل الحزبي والعمل من خلال مؤسسات المجتمع المدني المختلفة. وهو أمر دفع ملايين المواطنين إلى العمل من خلال الأطر الدينية الضيقة، مثل المسجد والكنيسة والتيارات المختلفة المرتبطة بهما، مع ما يرتبط بهذا التوجه من رؤى ضيقة وواحدية للعالم، من خلال التركيز على الأخلاق والجوانب الإيمانية المختلفة.

وتعكس أزمة المرشح السلفي "حازم أبو إسماعيل" في جانب كبير منها، أزمة البحث عن الرئيس المخلص الذي ينقذ المجتمع من براثن الفقر والفساد، ومن ثم يعيد المجتمع لعصور السلف الصالح الزاهية والمزدهرة التي تضمن له السعادة في الدنيا والآخرة على السواء. وهي أزمة ظهر أبرز تجلياتها في حالة التقديس التي أسبغها الناخبون على الرجل، ورغبتهم في الشهادة من أجله، فإما هو وإما لا شيء على الإطلاق!

وعلى النقيض من هذا التصور الديني الأخلاقي، هناك تصور آخر يجمع قطاعا من المصريين يرون صلاح البلد في ترشيح رئيس قوي يصفه البعض "بأن له قدما مدنية وقدما عسكرية"، أو "رجل عسكري تماما"، أو حتى "رجل مخابرات" له تاريخ مثل تاريخ "عمر سليمان".

هؤلاء لا يهمهم تاريخ المرشح، المهم أن يقبض على الأمور بيد من حديد، ويعيد للبلد أمنها وأمانها المعهودين. وبينما يبدو معظم الناخبين في المجموعة الأولى الأخلاقية من عامة الشعب والمتضررين من النظام السابق، فإن المجموعة الثانية صاحبة القبضة الحديدية تنتمي إلى قطاعات عديدة، تضررت بدرجة مباشرة أو غير مباشرة من اندلاع الثورة في مصر، إضافة إلى العديد من المصريين الذين نفد صبرهم بسرعة ولا يرون ضيرا في عودة الأمور إلى ما قبل الثورة، طالما تعود أعمالهم إلى ما كانت عليه في السابق، حتى لو ارتبطت تلك الأعمال بالرشاوى اليومية وممارسات الفساد الهائلة ووجود نظام سياسي ديكتاتوري.

أزمة انتخابات الرئاسة المصرية، هي في الصميم منها أزمة المجتمعات العربية ككل، التي انحصرت شعوبها بين خيارين أولهما أخلاقي وثانيهما أمني. والمخيف في الموضوع هو أن كليهما يعيد الأوضاع إلى نقطة الصفر، ما لم تفرز الثورة ثورات أخرى عديدة على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تقتلع من خلالها السلطات الدينية والأمنية الجامدة في عالمنا العربي!

 

Email