الجنون والحب

ت + ت - الحجم الطبيعي

استفسر صاحبي عما إذا كنت سأكتب عن الحب هذا العام. بعد ذلك ألتقي بشخص لم أره منذ زمن، فيعرفني على أسرته، ثم يقول لي إن ابنته تجد صعوبة في استيعاب ما يقال عن "اللاوعي" في درس الفلسفة.

وقد استدرجني ذلك إلى الكلام من جديد، في المسألة، بعد أن التمعت في الذهن أفكار عن اللاوعي أو عن الحب، رأيت أنها تشكل مقاربة جديدة توضح ما غمض أو تيسر ما استعصى على الفهم.

ومصطلح "اللاوعي" كما بات معروفاً، هو مفهوم صاغه مؤسس علم التحليل النفسي سيغموند فرويد. ومن مرادفاته في العربية؛ الدخيلة أو "العقل الباطن". ودخيلة المرء هي سرّه الذي لا يُعرف أو لغزه المحير، وعندما تصبح عقدته تقترب أكثر من مفهوم اللاوعي.

وهكذا فإن كلمة "اللاوعي" تحيل إلى أنانا المتوارية، أي إلى نسخة أخرى من شخصيتنا تشكل تلك المنطقة الغائرة أو المعتمة من النفس، التي نجهلها ولا نسيطر عليها، والتي تفعل في أحيان كثيرة، في غفلة منا ومن غير علمنا، لكي تفاجئنا أو تفضحنا. وقد تؤدي بنا إلى الاضطراب النفسي في الحالات القصوى. ويشبه أن يكون اللاوعي بحسب المصطلح القرآني، هو النفس الأمّارة التي توسوس للمرء وتشكل مصدر الغرائز أو منبع الأهواء. ولذا فهو بمثابة شخص آخر ندّ لنا أو صنونا أو ضدنا، يعيش في داخلنا، أو يتعايش معنا، والذي لا يكف عن أن يفعل من ورائنا، بصورة خفية أو ملتبسة، سلبية أو إيجابية.

ويعبّر اللاوعي عن نشاطه بأشكال وطرق مختلفة. وتعتبر الأحلام أجلى ترجمة لفعالية اللاوعي، فهي تعبر عن الرغبات المكبوتة والأهواء المقموعة التي لم تجد لها سبيلاً أو مسرباً لكي تصرف. ولهذا نجد أنه عندما يتعطل العقل والوعي أثناء النوم، فإن اللاوعي يتحرك، ويعمل أحياناً، فيؤلف سيناريوهات في منتهى الغرابة واللامعقولية، بحيث تفاجئ صاحبها، بعد يقظته، إزاء ذلك الشخص الذي مثّل كل تلك الأدوار أو قام بكل تلك المغامرات، فيما هو كان يغطّ في نوم عميق.

هناك من جهة ثانية، الاضطرابات النفسية بأعراضها ودرجاتها، التي تبدأ بالضيق والتوتر والعصاب، لتنتهي بالفصام والهذيان. وكلها تعبر عما اعتمل وتراكم وتم كبته أو نسيانه، من الرغبات المحبطة أو الصدمات المرعبة. هناك كثيرون، منهم الفيلسوف جان بول سارتر، لم يهضموا نظرية اللاوعي، ولم يقتنعوا بجدوى المعالجة التحليلية، عبر استخدام تداعيات الكلام وتحريره، لتفريغ الشحنات وفكفكة العقد أو إزاحة الكوابيس. ثمة من يتحدث اليوم عن طرق وأساليب جديدة، تكشفت مع ازدهار العلوم الإدراكية والعصبية.

أياً كان، فالمرء ليس مجرد تركيبة كيميائية أو منظومة عصبية، ولا هو مجرد جهاز كالحاسوب يصاب بالخلل. وإنما هو شخص له كينونته الوجدانية والعاطفية، كما له كينونته الاجتماعية والسياسية. بمعنى أن المرء السوي أو الناجح، هو الشخص الفاعل الذي يمارس دوره وحضوره، والذي يحتاج دوماً إلى التقدير والاعتراف من قبل المجتمع، قدر حاجته إلى أن يحب ويكون محبوباً.

هذا باب للتشخيص والعلاج لا يجدر إغفاله. فبداية الانحراف أن يشعر الواحد بأن لا قيمة له ولا دور، وبأنه غير مقدّر أو معترف به، أو غير محبوب، الأمر الذي يؤدي به إلى الانطواء والعزلة والوحشة، أو يدفعه نحو العدوانية لكي يمارس العنف ضد الغير.

ولذا نجد أن مشكلات الحب تكون مصدر الاضطراب والجنون في كثير من الحالات، سواء لدى من يخفق في التجربة، أو من تحول الموانع والمحرمات بينه وبين من يحب.

هنا ما ينقلني إلى حديث الحب، وإن مضى يوم عيده (14 فبراير). والكلام في هذا الشأن لم يتوقف أصلاًَ، منذ بدأ الإنسان الكتابة، بل منذ بدأ يعبر عن عواطفه وانفعالاته.. هذا حال الإنسان العادي الذي يعبر عن شغفه وشوقه تجاه من هو أثير عنده، كما هي حال أهل الكتابة والذين يتقنون فنون التعبير والتأليف، من أدباء وعلماء وفلاسفة. واللغة العربية حافلة بالمآثر والروائع، بقدر ما تنطوي على معجم، ربما هو الأغنى بين المعاجم، في ما يخص مكتبة الحب والعشق، الحب بمختلف أصنافه وأنماطه؛ العذري والإباحي والصوفي...

هنا يحضر سؤال مزدوج: هل ثمة بعد مجال لقول جديد في الحب، بعد كل ما قيل؟ إن الحب هو كأي شيء آخر، لا ينفد الكلام عليه، لأن هناك دوماً إمكانية لنسبته إلى شيء آخر، أي لتعريفه بإقامة رابطة بينه وبين سواه، عبر الإبداع في تقنيات الاستعارة وأساليب المجاز.

هناك سبب آخر يعود إلى طبيعة الحب نفسه، الذي هو حدث استثنائي خارق له فرادته. كل تجربة هي وحيدة في هذا الخصوص. كل قصة لها أسرارها، كل مغامرة لها ألغازها وشيفراتها. ولذا، فمن يحب لا يفعل ذلك وفقاً لمقاييس موضوعة. بالعكس، إن الحب يقع دوماً بخلاف المألوف والمعتاد، بقدر ما يستجيب لرغبات دفينة، أو يلأم جراحاً غائرة، أو يصيب هوامات أصلية يجهلها صاحبها.

وإذا كان الحب قد يأتي من مكانٍ في النفس نجهله، فإنه قد يؤول بصاحبه إلى ما لا يريده، أو إلى عكس ما يتمناه: الإخفاق أو الجنون. بذلك أنهي كلامي بالوجه الآخر للسؤال: هل قراءة ما يقال عن الحب لا تفيد من يقع في التجربة، بحيث تقيه من فخ السقوط إلى الهاوية؟

لا شك أن الاطلاع على تجارب العشاق أو على أدبيات الحب، يكسب المرء خبرة قد تساعده في إدارة علاقته مع من يحب. ولكن المعرفة المسبقة لا تكفي، وإن كانت ضرورية. فهي ليست عاصماً من الانزلاق تحت تأثير الأهواء الجامحة أو المشاعر العاصفة.

وكما أن حبنا لا يخضع للقوانين، فإنه قد يؤول بصاحبه إلى الانحراف والخروج عن السوية. من هنا حاجته إلى المعالجة بالتفنن والابتكار، ولعل هذا هو الشأن في مواجهة الإشكال في كل مضمار. هذا ما فعله مجانين العشق في مواجهة الصد والفقد، وفي مكابدة الشوق والوجد، كقيس ليلى وزملائه. لقد تمكنوا من تحويل رغباتهم إلى كلام جميل أو شعر بديع، فكان جنونهم أجمل الجنون وأخصبه، على العكس من الجنون الآخر، القبيح أو السقيم، الذي يذهب بالعقل وينتج الخبل.

وهذا ما فعلته رابعة العدوية من جهتها. لقد تحولت من الحب "الشهواني" الذي لا يرتوي، إلى حب من نوع آخر، موضوعه الذات الإلهية، هو حب الشيء، فقط لأنه موجود، أو لأنه أهل لأن يُحب. إنه التعلّق بالشخص الذي نأنس بوجوده، لأن مجرد وجوده يولد المتعة والفرح والامتلاء في آن.

Email