الثورات العربية بين الواقعين الافتراضي والفعلي

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم يحدث من قبل في التاريخ الإنساني، أن انتهت الثورات إلى المراوحة بين العالم الفعلي الذي انطلقت منه وتأسست عليه ورغبت في تغييره وتجاوزه، وبين العالم الافتراضي الذي احتمت به وغامرت من خلاله.

وشيدت أحلام التغيير وفضحت السلطات عبر صفحاته وشبكاته المختلفة. فقد انطلقت ثورات الماضي عبر جغرافيا محددة وتوقيت زمني معين، لتواجه السلطات المهيمنة أياً كانت طبيعة الحكم الذي تستند إليه وتكتسب من خلاله شرعيتها. كانت مفاجأة الآخر هي العنصر الأكثر تمكيناً في نجاح الثورات وإزاحة القوى الحاكمة والسلطات المستبدة.

وكان الميدان هو حدود الواقع المعيش، سواء أكان إقطاعية أو قرية أو مدينة أو بلدا بأكمله. حدث ذلك في الثورات التاريخية المتعارف عليها، مثل الثورة الأميركية والفرنسية والبلشفية، كما حدث في معظم الثورات الأخرى التي حدثت في كل مكان.

أما بالنسبة للثورات العربية الجديدة في مصر وتونس، وبدرجة أو بأخرى في كل من اليمن وليبيا وسوريا، فقد تراوحت ممارسات الثورة بين العالم الجغرافي الفعلي وبين عالم الإنترنت الافتراضي. ولم تكن هذه المراوحة الجديدة خصيصة من خصائص الثورات، بقدر ما كانت ذات علاقة قوية ووطيدة بالعصر الذي نعيش فيه، وما ارتبط به من ثورات معلوماتية غير مسبوقة في تاريخ البشرية.

فلم يكن من الممكن لهذه الثورات أن تتجاهل أدوات التواصل الجديدة، التي أصبحت ملء السمع والبصر؛ من فيسبوك وتويتر ويوتيوب وتليفونات محمولة، وغيرها من المدونات التي نقلت ووسعت واقع المواجهات مع السلطات الحاكمة، من نطاق الجغرافيا والواقع الفعلي إلى نطاق الإنترنت والواقع الافتراضي.

وهو أمر أمدها بقدرات غير مسبوقة، يأتي على رأسها عدم قدرة الحكومات العربية بوسائل قمعها التقليدية، على متابعة كل هذا الكم من الكتابات والتعليقات ومصادرته أو حجبه.

فالأمر الموثوق منه، أن السلطات العربية قد بوغتت بوسائل اتصال جديدة، لم تكن أجهزتها الأمنية التقليدية والبالية مهيأة لمواجهتها والتعامل معها، وهو أمر يكشف عن ضعف هيكلي حقيقي في بنية هذه الأجهزة، رغم ما نسمعه ليل نهار عن حصولها على تدريبات هنا أو هناك، ورغم الميزانيات الهائلة المتوفرة لها مقارنة بأي قطاع آخر.

والتساؤلات المهمة هنا، التي تحتاج للمزيد من البحث والتحليل في الفترات المقبلة، هي: هل نجحت الثورات العربية، على الأقل في مصر وتونس، بسبب وسائل التواصل الحديثة؟

وهل أصبحت الإنترنت لازمة جديدة من لوازم نجاح الثورات القادمة في العالم بشكل عام والعالم العربي بشكل خاص؟ وإذا كانت الإجابة بنعم، فهل تتخلص الدول العربية من الإنترنت؟ أم أنها سوف تستخدم بدائل جديدة من التقييد والحجب والمنع؟ وهل تنفع هذه الوسائل مستقبلاً مع الأجيال العربية الشابة الصاعدة أم لا؟

الواقع أن القول إنه لولا الإنترنت والوسائط الجديدة والعديدة المرتبطة بها، لما نجحت الثورات العربية، قول فيه الكثير من الاجتزاء والقفز على حقائق الأمور. فالثورات تنشأ على أرض الواقع من خلال علاقات الوجه بالوجه، حيث تحدد انطلاقها درجة الوعي الناجمة عن ضغط الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وما يرتبط بذلك من ضجر وضيق وتأزم، ومن ثم انفلات وتظاهر وتمرد على المستوى الفردي والجمعي.

فلم يكن من الممكن للثورة في مصر، أن تنجح بدون القاعدة الفعلية الشعبية التي تضررت من النظام السياسي في مصر عبر عقود ثلاثة متواصلة، سواء في القاهرة أو في غيرها من محافظات مصر الأخرى. والأمثلة كثيرة على جهود الواقع الثوري الفعلية، من خلال اعتصامات عمال المحلة الكبرى وحركة كفاية ودعوات حركة شباب السادس من إبريل.

إن الثورات العربية كانت سوف تحدث إن عاجلاً أو آجلاً، سواء وجدت الإنترنت أم لم توجد. لكن الشيء المهم هنا هو أن الإنترنت وفرت سياقات جديدة وغير مسبوقة، من فضح السلطات الحاكمة محلياً وإقليمياً وكونياً، وهي سياقات عجلت بحدوث الثورات العربية، وهو أمر يجعلنا نتنبأ بأن الإنترنت سوف تمثل محفزاً غير مسبوق في اندلاع المزيد من الثورات في المنطقة مستقبلاً.

كما أن الإنترنت وفرت سياقات غير مسبوقة من التعبئة السياسية لكافة الأطياف والنشطاء، الأمر الذي وفر أسبقية للثوار على حساب قدرة السلطات وإمكانيات صنع القرارات الخاصة بها. فلأول مرة في العالم العربي تلهث السلطات وراء ممارسات الثوار، وتحاول التعرف على خطواتهم القادمة عبر الفضاء الإلكتروني، الذي كانت اليد الطولى فيه للثوار وحركاتهم الاجتماعية والسياسية المختلفة.

لا يمكن لأي ثورة عربية قادمة، ناهيك عن الحركات الاجتماعية والسياسية، أن تتجاهل الواقع الافتراضي والوسائط المختلفة المرتبطة به. وهو أمر لن تستطيع السلطات العربية الوقوف في وجهه أو التفكير في التخلص منه، وهو إما أن يفرض عليها القبول بالتغيير السياسي طواعية ومشاركة الأجيال الشابة الجديدة الصاعدة، وإما الدخول في متاهات المواجهات الدموية التي ما زلنا نعايشها كل يوم، في الفضاء الفعلي العربي عامة.. والسوري خاصة!

 

Email