تكاليف التغيير الباهظة

ت + ت - الحجم الطبيعي

فاتورة التغيير في البلدان العربية، مرتفعة مقارنةً بالحالات الأخرى المشابهة في أوروبا الشرقية وإفريقيا وآسيا. يعود ذلك إلى التأخر في طلب التغيير، وطريقة الأنظمة ذات التجربة الطويلة في الحكم والسيطرة في التعامل مع مطالب التغيير.

التغيير مستحَق في العالم العربي، ويعود بسهولة إلى بداية ووسط القرن الماضي. حينها بدأت تتشكل أنظمة حديثة على أنقاض الإمبراطوريات القديمة، أو نالت استقلالها ولو بشكل رمزي من الدول الاستعمارية. أُنشئت الأنظمة السياسية على عجل وغفلة من شعوبها، وغالباً ما كانت تنتج عن دور حاسم من إحدى القوى الدولية الإمبريالية الفاعلة، شرقيةً أو غربيةً.

كان الهدف الرئيس للأنظمة القائمة، هو الحفاظ على الأمن والسلم الداخليين، مع الحصول على دعم حيوي وسياسي وعسكري من إحدى الدول العالمية المهمة، على الأقل، وبقيت الشعوب مستثناةً إلا من معارضة تظل تراوح مكانها في القول والفعل. ظلت برامج التنمية والتطوير والتحديث القائمة على الاستقلال الحقيقي، معطلةً بشكل شبه كامل أو مطلق. أُبقيت الشعوب والحكومات العربية في وضع المتلقّي لما يأتيها من الخارج من إرشادات وتوجيهات، مصحوبةً بسلة من الدعم الاقتصادي والسياسي والعسكري.

بغياب أنظمة ديمقراطية وتغييب الشعوب عن المشاركة في اتخاذ القرارات المصيرية، انتشرت فكرة وجود مؤامرة مزمنة على العالم العربي، حيث لها ما يؤيدها على الاستمرار. بشكل مباشر أو غير مباشر، شاركت الأنظمة السياسية المستبدة في تمرير الجزء الأكبر من المؤامرات. أينما أدار العربي وجهه يجد أن الأبواب أمامه مؤصدةً، اقتصادياً وسياسياً وثقافياً وعسكرياً. الطريق الوحيد المقرر له، هو أن يبقى مشلولاً مسلوب الحق في تقرير مصيره بيده.

سارت الأنظمة السياسية، المدعومة خارجياً، في واد وشعوبها في واد آخر. سادت العلاقات والنظرات السلبية جل أوجه العلاقات بين الأنظمة السياسية والشعوب التي تحكمها. اعتمد جل الأنظمة سياسة القبضة الحديدية، حيث الجيش وقوى الأمن الداخلي يمثلان الطريقة شبه الوحيدة، التي غالباً ما يلجأ الأنظمة إليها للتواصل مع شعوبها. تحوّل الجيش من مدافع عن الشعب، إلى عدو ضمني وعلني حقيقي له. في كل مرة تفيق الشعوب على أنفسها بانتفاضة أو ثورة، لتواجه بأبنائها الذين يخدمون في السلك الأمني، يُفشِلون حركة التحرر أو التغيير المأمولة أو المتوخَّاة.

بسبب هذا وغيره من القيود والمحدِّدات والمثبِّطات و"المؤامرات"، وجب على الشعوب المطالِبة بالتغيير، أن تدفع ثمناً ليس سهلاً مما تقدر عليه. يُدفع هذا الثمن من المقدّرات الطبيعية، وطاقات الشعوب المادية والمعنوية والفكرية الإبداعية. حتى تقرير المصير الذي تطالب به، بات على المحك أكثر من أي وقت مضى. ذلك بسبب الدعم الحيوي الفعال الذي تتلقاه حركات التغيير، بناء على طلب مُلحٍّ، يأتيها بعد تكبدها خسائر جسيمة يوقعها بها الطرف الحكومي الرسمي الحاكم.

حدث ذلك بشكل واضح في الأنموذجين الليبي واليمني، حين استعانت الجهتان الرسميتان بقوتهما العسكرية لحسم الموقف، إزاء الانتفاضة والثورة الشعبية المتصاعدة، في كل منهما. هذا ما يحدث الآن بالنسبة للأوضاع في سوريا، التي تسير بشكل متواتر في اتجاه الحسم، بالاستعانة بالقوى الدولية المهيمنة؛ دول لا تزال توصف بالاستعمارية والإمبريالية والاستكبار العالمي.

لماذا يستمر نظام سياسي متهاوٍ في مقارعة شعبه حتى تدمير آخر مؤسسة للدولة، وآخر مُنشأة، وآخر صرح، وهدر آخر نقطة دم..؟! لماذا لا يذعن الطرف الرسمي المتهالك، للمطالب الشعبية المتزايدة ويحتكم إلى منطق العقل بكل شجاعة؟!

هنالك أمثلة كثيرة على لجوء أطراف عربية ودولية لسياسة مهادنة شعوبها وتحقيق مطالبها، وعدم الانزلاق نحو خلق أنهار وبحور من الدماء. الاتحاد السوفيتي وتشيكوسلوفاكيا ومصر والسودان.. دول وفّرت الكثير من الجهود، وحقنت المزيد من الدماء في انتقالها من حقبة نحو أخرى.

آن الأوان للكثير من الأنظمة العربية التي تتوقع ربيع التغيير يطرق أبوابها، أن تُعمل عقولها وتلجأ للخيارات الأكثر حفظاً للدماء والخيرات والمكتسبات، وماء الوجه.

Email