الصحوة والعتمة أو الاستكبار المقنع

ت + ت - الحجم الطبيعي

ثمة مقولات رائجة في الخطاب السياسي والايديولوجي، العربي والإسلامي، تستخدم كأسلحة فكرية في السجالات والمناظرات حول الأحقية والمشروعية، كما تستخدم كأطر نظرية في تفسير الأحداث وقراءة المجريات، مثل نظرية المؤامرة، أو شعار الصحوة الإسلامية.

أو ثنائية الوطني والأجنبي، أو الإسلام والاستكبار.. وهي مقولات لم تعد تصلح للمقاربة والمعالجة، في ما يخصّ المشكلات، بل تزيدها تعقيداً، لأنها تبنى على حجب الوقائع وتزييف الحقائق، بقدر ما تمارس الخداع والتضليل للذات وللغير. أتوقف هنا عند مقولة "الصحوة الإسلامية"، التي يعني بها مطلقوها نهوض الإسلام وصعوده، لاستعادته المبادرة والقوة على المسرح، تحت شعار: "الإسلام هو الحل".

وما أراه، أن هذا الشعار، كما يفهمه المنادون به، يستحيل تطبيقه في هذا العصر، إذ لا سبيل لنا أن ننهض بمجتمعاتنا ونقوم بتحديث بلداننا وتنميتها، بأساليب الماضين ووسائلهم، إلاّ إذا كنا نعتبرهم أقدر منا وأعلم بإدارة شؤوننا، وعندها نحكم على أنفسنا بالعجز والقصور والطفولة، لكي نقلّدهم بصورة حرفية أو عمياء.

الأجدى أن نبتكر ما به نصنع حياتنا ونشارك به في صناعة الحضارة، فنمتنع عن تحميل الدين ما لا طاقة له به من رؤانا الخاصة وتفسيراتنا القاصرة، لأننا إن أخفقنا أسأنا إليه بانتهاك قِيَمه. أما إن نجحنا، فننسب إليه، زوراً، ما ليس له أو ما لم يأتِ منه.

لنتواضع بحيث نعترف بإنجازات الغرب، بدلاً من مهاجمته، لكي نحسن استثمارها وتطويرها، بالإضافة عليها إضافات قيّمة وثمينة. وها هي "الأحزاب الإسلامية"، في مصر وتونس والمغرب والكويت، قد فازت في الانتخابات، لا بالاستناد إلى مؤسسة الخلافة والشورى وأحكام الفقهاء، بل بالوسيلة الديمقراطية المستفادة من الحداثة الغربية.

في أي حال، لن تخدعنا، بعد كل هذه الأزمات والانتهاكات، الأسماء والتصريحات والدعوات التي تشدّد على الهوية والانتماء والتراث والسلف.. لسنا من السذاجة بحيث نصدق "الإسلامي" كما يقدم نفسه بوصفه من حرّاس العقيدة والشريعة، في مواجهة الغرب بثقافته ومذاهبه ونظمه وقيمه.

لنتأمل ما قاله قادة إسلاميون في مؤتمر دافوس: "إننا نعول على دعم أصدقائنا في أوروبا والولايات المتحدة، لأن إمكاناتنا الذاتية لا تكفي" (رئيس وزراء تونس حمادي الجبالي). ولا غرابة، فالإسلاميون هم ليبراليون حتى العظم في الاقتصاد، وهذا ما يجمعهم بأميركا والعالم الرأسمالي، كما جمعهم من قبل عداؤهم للقومية العربية والمعسكر الاشتراكي.

من هنا، من التبسيط والغفلة أن نصدّق ما يقوله الإسلاميون، أو أن نحسب أنهم أتوا ليطبقوا أحكام الشريعة أو تعاليم العقيدة. فهذا آخر ما يفكرون فيه، لأن الهاجس عندهم هو السلطة التي هي أَوْلى من كل شيء. أما الشرائع والفرائض فإنها متروكة للجناج الراديكالي، الأصولي أو السلفي، أي للذين يريدون تطبيق نماذج بائدة أو كاريكاتورية في العيش والفكر والمسلك، كما فعل ذلك السلفي المصري الذي رفع الأذان خلال جلسة مجلس الشعب، مما أثار غضب واستنكار رئيس المجلس الذي هو إسلامي إخواني.

من هنا أيضاً، وخاصةً، ندرك مدى التبسيط والتمويه والادعاء، في القول ان "القرن الحالي هو قرن الإسلام" وان الصحوة الإسلامية، التي توحّد المسلمين ولا تفرّقهم، قد اجتازت كل العقائد بما فيها "الليبرالية الديمقراطية"، أو أن ثورات الربيع العربي هي ثورات إسلامية ضد الاستكبار العالمي.

هذا ما يقوله زعماء وقادة إسلاميون في إيران. ولكنهم يقدمون، بذلك، قراءة للأحداث تصدر عن نرجسية عالية، بقدر ما يسقطون أوهامهم العقائدية أو مطامحهم الاستراتيجية، على الثورات العربية التي يخشون عليها من دول الاستكبار.

فيما هم يقومون بالالتفاف عليها ومصادرتها لحساب نظامهم السياسي، الذي صادر النظام الجمهوري الديمقراطي القائم على النقاش المفتوح والرأي الحرّ والمداولة العقلانية، لمصلحة ولاية الفقيه القائمة على قدسية النص الفقهي.

ما يقولونه يتعارض مع مجريات الوقائع، لأن الثورات العربية لم تندلع تحت شعار "الصحوة"، ولا من أجل مجابهة دول الاستكبار، بل من أجل مطالب الحرية والعدالة والكرامة، ولإقامة مجتمعات تعدّدية، مدنية، تداولية، ديمقراطية، في مواجهة أنظمة الاستبداد والفساد والتخلّف، أو في مواجهة المنظّمات الأصولية الإرهابية.

وكلتاهما شوّهت سمعة العرب، وأطاحت بالمكتسبات الحضارية الحديثة للمجتمعات العربية. هنا مكمن العلّة في الداخل، هنا الجرثومة السرطانية الفتّاكة، القومية أو الدينية، التي دمّرت مصادر القوة والمَنَعة لدى الشعوب العربية، بقدر ما شلّت طاقتها الحيّة والخلاّقة على تحديث أبنيتها واستغلال مقدّراتها، وصنع تقدّمها وازدهارها.

على صعيد آخر، هل محاربة الاستكبار الغربي تحت راية الصحوة الإسلامية توحّد المسلمين؟

هنا أيضاً تتعارض قراءة الإسلاميين في إيران مع مجريات الأحداث. هناك فارق كبير، في الموقف من أميركا والدول الأوروبية، بين إيران من جهة، وبين الأحزاب الإسلامية العربية من جهة أخرى. ففي الحالة الأولى ثمة صراع وعداء، أما في الحالة الثانية فهناك حوار أو صداقة، كما تشهد أقوال الجبالي، والعلاقات بين الإخوان المسلمين في مصر والولايات المتحدة الأميركية. هذا فضلاً عن الشرخ العقائدي والتاريخي بين الإسلامَيْن السني والشيعي، حيث الخلاف بينهما يكاد يتحول إلى خلاف بين دينين.

بقيَ قولهم ان العالم يسير نحو التعددية القطبية، في السياسة والاقتصاد والثقافة، فهذا صحيح. ولكن هذا المعطى الجديد الذي يتغيّر معه النظام العالمي، ليس صنيعة الإسلام السياسي بحكوماته ومنظماته، وإنما هو صنيعة الدول الناشئة والصاعدة على المسرح الدولي (الصين، الهند، البرازيل، تركيا، ماليزيا...)، التي تتحول إلى قوى عالمية فاعلة تشارك في صناعة الأحداث على الساحة الكونية، بقدر ما نجحت في صنع نماذجها في التنمية، وبقدر ما أخذت تكسر احتكار العالم الغربي في الإنتاج العلمي والمعرفي.

أما إيران، فإنها تفتقر إلى المصداقية في الكلام عن التعددية القطبية. بل هي هنا تكاد تقع في ما تتهم به سواها: نسبة إنجازات الغير إلى الإسلام وصحوته، ذلك أن إيران الإسلامية لم تنجح في ابتكار نموذج للتنمية. أما على الصعيد السياسي فإنها تحارب الاستكبار الخارجي باستكبار مقنّع، أي باستبداد مضاعف، سياسي وديني. وكذلك هي لم تنجح على الصعيد الثقافي، لأنها تغلب الاعتبارات الايديولوجية والاستراتيجية على هموم الثقافة ومشاغل المعرفة.

نعم، هي نجحت في الصاروخ والأسطول والسلاح النووي. ولكن هذه عملة تعيدنا إلى الوراء ولا تصنع نمواً أو ازدهاراً، بل هي حيث تستخدم، سواء في أميركا أو روسيا أو إيران، إنما تؤول إلى الإخفاق بقدر ما تنتقل بصاحبها من مأزق إلى سواه، وتقوده إلى ممارسة ما يتهم به الغير، بقدر ما تقوده إلى انتهاك ما يدّعيه أو يدعو إليه.. وبذلك تتحول الصحوة إلى عتمة، والقوة إلى غطرسة، ومقاومة الاستكبار إلى ذريعة للتغطية على مساوئ الأنظمة وآفاتها وكوارثها.

 

Email